علقت مجموعة نادي باريس قرارها السابق إعفاء ديون السودان المقدرة بأكثر من 60 مليار دولار، وذكرت في تقريرها السنوي أن أعضاء المجموعة اتفقوا بشكل جماعي على تعليق الخطوات التي بدأت العام الماضي، والتي تأهل بموجبها السودان للدخول في مبادرة الـ”هيبيك” لتخفيف أعباء البلدان الفقيرة المثقلة بالديون.
التعليق “الإيقاف”
وأشار التقرير إلى أن المجموعة ستواصل التنسيق مع البنك الدولي وصندوق النقد ومؤسسات التمويل الدولية حتى التأكد من عودة السودان إلى المسار الانتقالي المدني، الذي حصل بموجبه على تلك الإعفاءات في أعقاب مؤتمر باريس الذي عقد في منتصف مايو (أيار)، وذلك بسبب الإجراءات التي اتخذها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، فما تأثير ذلك التعليق وكيف يفهم ويفسر؟ وهل فقد السودان فرصته بشكل نهائي في الإعفاء؟ أم أن هناك طريقاً آخر للعودة مجدداً؟ وكيف تكون العودة في حال الوفاء باشتراطات نادي باريس والمؤسسات الدولية الأخرى؟
في السياق، لم يستبعد الاقتصادي السوداني صدقي كبلو، مثل هذا القرار كونه كان متوقعاً خصوصاً بعد تجميد كل من الولايات المتحدة وصندوق النقد والبنك الدولي مساعداتها، ولجهة أن نادي باريس لا ينظر في أي مسألة إلا بعد صدور شهادة حسن سير وسلوك من الصندوق والبنك بأن الدولة المعنية قامت بإجراء الإصلاحات اللازمة التي تتماشى مع شروط الصندوق.
ويضيف كبلو “صحيح أن نادي باريس أعلن تعليق قراره إعفاء ديون السودان، لكن الأمر في حقيقته هو أنه أوقف الإجراء تماماً، إذ إن عبارة (تعليق) هي مجرد عبارة دبلوماسية للإيقاف، ولقد أتبعت ذلك المعونة الأميركية بقرار تحويل مساعداتها إلى منظمات مجتمع مدني تعمل في السودان، بدلاً من الحكومة”.
وأشار الاقتصادي السوداني إلى أن الإشكالية الجديدة والسؤال الصعب هو ماذا سيحدث بافتراض انجلاء الأزمة السياسية الراهنة، وعودة مسيرة التحول الديمقراطي وتشكيل حكومة مدنية، وفق المطلوبات الدولية، كيف سيتم استئناف عملية إعفاء الديون من جديد، بكل ما يترتب عليها من إجراءات؟ ومن أين ستكون البداية؟
مخاوف البدء من الصفر
أعرب كبلو عن مخاوفه الكبيرة من أن يتم “ابتعاث بعثة جديدة من صندوق النقد الدولي للتقييم، ربما يختلف تقييمها عن السابقة، أو ربما تطالب بإجراءات إصلاحية جديدة، ما يعني المزيد من الضغوط على المواطن السوداني، لذلك لطالما شددنا على ضرورة الإصلاح الداخلي”، مبيناً أن معالجة هذا الموضوع تحتاج إلى عمل دبلوماسي واسع، لكي ينجح السودان في استئناف العلاقات القديمة كما كانت عليه من دون بدء إجراءات جديدة للتقييم.
وأشار الاقتصادي المتخصص إلى أن الحكومة الحالية أعادت سياسات التمكين بحيث أضحت نسخة مقاربة لحكومة الرئيس المخلوع عمر البشير، بالتالي باتت هناك مشكلة حقيقية أمام الإصلاح الاقتصادي، لأنها غير قادرة بمواصفاتها تلك على إنجاز أي إصلاح، وهو السبب الأساس في قيام انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) التي أطاحت ذلك الحكم، ما يعني المزيد من تهريب وتبديد موارد البلاد، واعتمادها في صادراتها ووارداتها على طرف ثالث بسبب العزلة الدولية، مؤكداً أن المطلوب هو الاندماج التام في المجتمع الدولي.
ويضيف المتحدث نفسه “كان مؤتمر باريس قد طلب من صندوق النقد الدولي استعجال إرسال بعثته إلى السودان قبل المواعيد المحددة، وبالفعل وصلت البعثة ورفعت تقريراً يفيد بتقدم السودان في الطريق الصحيح، ومن ثم أعلن الصندوق رسمياً أن السودان بات مؤهلاً للدخول ضمن برنامج إعفاء الديون (هيبيك) وبدأت عملية الإعفاءات، بإعلان عدد من الدول استعدادها لإلغاء ديونها على السودان، وتمت إحالة المتبقي إلى نادي باريس للنظر في أمر جدولتها وإعادة الترتيبات المرتبطة بذلك”.
توقف الانفتاح
وأردف كبلو “المقصود بكل ذلك هو تعزيز انفتاح السودان الاقتصادي الدولي وتمكينه من الاستدانة من سوق المال العالمية، وكان من المقرر أن ينعقد اجتماع لاحق مشابه في العاصمة البريطانية لندن، للنظر في معالجة ديون المؤسسات والبنوك الخاصة على السودان، لكن للأسف الشديد توقف كل ذلك بينما لا يزال السودان غارقاً في الديون، وعليه التزامات أقساط لن يستطيع الوفاء بها”.
وتابع “لولا انقلاب 25 أكتوبر، كان يفترض في 31 ديسمبر الماضي الإفراج عن بعض المبالغ، بينها مبالغ كانت مخصصة لدعم الميزانية الحالية والميزان التجاري وميزان المدفوعات، إضافة إلى مبالغ خصصها البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي، لإصلاح البنية التحتية في مجالات الخدمات بخاصة الكهرباء والمياه، وبدأت بالفعل بعض الشركات الألمانية الترتيب لإجراء الإصلاحات المطلوبة”.
خسارة مزدوجة
وقال كبلو إن السودانيين تحملوا عبء الإصلاحات القاسية أملاً في الوصول إلى بر الأمان، “لكنهم للأسف لم يتمكنوا من جني ثمار تحملهم بوقوع الانقلاب الذي عطل كل ذلك”، مبيناً أن السودان خسر مرتين: الأولى بالتزامه وتحمله سياسة التحرير وإصلاحات روشتة الصندوق القاسية تجاه مواطنيه، والثانية في عدم حصوله على أي شيء.
وعلى صعيد متصل، قال شريف محمد عثمان المتحدث باسم المجلس المركزي لقوى “الحرية والتغيير”، إن “السودان فقد فرصة كبيرة في إسقاط عبء كبير من الديون المتراكمة عبر حقب حكم مختلفة، ظلت تثقل كاهله وتكبل اقتصاده لسنوات طويلة، وتحرمه من مشاريع تنموية كثيرة، وذلك بسبب انقلاب 25 أكتوبر الماضي”، مشدداً على ضرورة “اعتراف الجميع بأن الانقلاب أضاع على السودانيين فرص تحسن أوضاعهم المعيشية والانفراج الاقتصادي”.
إلى ذلك، وصف الأكاديمي والمحلل الاقتصادي، محمد الناير، تعليق مجموعة نادي باريس قرار إعفاء ديون السودان بأنه إجراء مؤقت ربما يعود مرة أخرى، وقد يكون قد تم في سياق الضغوط السياسية، إلى حين حدوث تغيير وانفراج يؤسس لحكم مدني ديمقراطي. أما إذا استمر الانسداد في الأفق السياسي، فسيشكل ذلك عائقاً أمام استقرار البلاد الاقتصادي والأمني بصورة كبيرة.
وأعرب الناير عن أمله في أن “يتعقل الجميع من خلال تقديم تنازلات هنا وهناك تقود إلى التوصل إلى اتفاق سياسي يخرج البلاد من أزمتها، لا سيما أن الكل بدأ يجمع على ضرورة وجود حكومة كفاءات وطنية مستقلة من قبل معظم القيادات، سواء في الحرية والتغيير بجناحيها بما فيها المكون العسكري نفسه، كأفضل حل لإدارة المرحلة الانتقالية”.
ولفت المحلل الاقتصادي إلى أهمية عودة الولايات والمتحدة والغرب مرة أخرى للتعاون مع السودان حتى لا يجد نفسه مضطراً إلى الاتجاه شرقاً بصورة نهائية، لأن هناك الآن نظاماً اقتصادياً عالمياً جديداً يتشكل، لن يكون كما قبل الحرب الروسية – الأوكرانية، بحيث يصبح التعويل على القوة الاقتصادية أكثر منه على العسكرية بصفة أساسية.
المالية تنفي
من جانبها، نفت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي أن تكون مجموعة نادي باريس قد تراجعت عن إعفاء ديون السودان، موضحة أن السودان قد خاطب سكرتارية مجموعة نادي باريس في أبريل (نيسان) الماضي في شأن تمديد توقيع الاتفاقيات الثنائية بين السودان ومجموعة دول نادي باريس حتى أبريل 2023، وتمت الموافقة على التمديد.
أوضحت الوزارة في بيان قصير أن السودان لم يتلقَّ إفادة مكتوبة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تشير إلى إلغاء أو تجميد الاتفاقيات.
كما أشار البيان إلى عدم صحة ما تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة، حول أن مجموعة نادي باريس التي تم الاتفاق معها في يوليو (تموز) 2021 على إعفاء ديون السودان قد تراجعت عن هذا الاتفاق.
وفي يوليو 2012، تعهدت 20 من الدول الدائنة للسودان بشطب 14.1 مليار دولار من أصل 23.5 مليار، ولفت وقتها رئيس نادي باريس إيمانويل مولان إلى إمكانية شطب القسم الذي تمت إعادة جدولته على المدى البعيد.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن في مايو (أيار) خلال مؤتمر في باريس، إلغاء فرنسا حصتها من ديون السودان المقدرة بنحو خمسة مليارات دولار، مع وعود من دول عدة بتقديم مساعدات وقروض لمساعدة السودان في إنهاء ديونه طرف مؤسسات التمويل الدولي.
إلى جانب مجموعة نادي باريس الدائن الأكبر تشمل ديون السودان مجموعة مؤسسات التمويل الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليين)، والتي شطبت بالفعل جزءاً من ديونها عبر قروض من فرنسا والولايات المتحدة، إلى جانب بعض الديون الثنائية من الدول الخليجية والآسيوية والبنوك التجارية.
وكان من المنتظر أن يستفيد السودان من مبادرة الـ”هيبيك” في الاندماج الكامل مع المجتمع الدولي بما يمكنه من تجاوز مشكلاته الاقتصادية الهيكلية العميقة والتدهور الخطير الذي أورثه في كل القطاعات، والذي استفحل بأكثر مما هو عليه بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 الماضي.