على الرغم من تجذر الخلافات وتشعبها بين أطراف العملية السياسية في السودان، مما انعكس على مجريات الحوار الذي تقوده الآلية الثلاثية التي تضم الاتحاد الأفريقي ومنظمة (إيغاد) والأمم المتحدة، برزت في الآونة الأخيرة من خلال الجلسات المشتركة غير المباشرة بعض نقاط الالتقاء في الرؤى بين المكون العسكري وقوى إعلان “الحرية والتغيير” المجلس المركزي، بخاصة حول مبدأ توسيع قاعدة المشاركة في الوضع الدستوري للمرحلة الانتقالية، من دون قصرها على شراكة بين أطراف بعينها كما كان قبل انقلاب الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021، فهل يشكل هذا التقارب الذي يواكب أيضاً رؤى “ميثاق التوافق الوطني” الجناح الآخر للحرية والتغيير، مدخلاً لإذابة بعض جمود الخلاف وفتح آفاق جديدة قد تفضي إلى مزيد من التقارب في وجهات النظر ربما يقود إلى انفراج الأزمة برمتها؟
لا اعتراض من المركزي
وفي السياق، قال القيادي بالحرية والتغيير المجلس المركزي والمتحدث باسم حزب المؤتمر السوداني نورالدين بابكر لـ “اندبندنت عربية”، إن التحالف لا يعترض على مبدأ توسيع قاعدة المشاركة بالفترة الانتقالية، لكن مع ضرورة تحديد طبيعة المشاركين بحيث لا يمكن السماح للقوى السياسية التي كانت تشارك النظام السابق في الحكم حتى لحظة سقوطه، لأنها ببساطة جزء منه وبالتالي فقد سقطت معه، ومن الطبيعي ألا يكون لها مكان في الفترة الانتقالية باعتبارها ونظام البشير حالاً واحداً.
وأكد بابكر أن رؤية التحالف حول الخروج من الأزمة تضمنت الإشارة بوضوح إلى عدم ممانعته على مبدأ قاعدة سياسية أوسع لأفضل تمثيل ممكن في مؤسسات الفترة الانتقالية من القوى المؤمنة بانتفاضة ديسمبر (كانون الأول) وأهدافها والتحول المدني الديمقراطي، مشيراً إلى أن التحالف نفسه يسعى إلى توسيع قاعدته التي يعتبرها ضاقت بخروج بعض المكونات منها.
وشدد القيادي في المجلس المركزي على أن تمسك التحالف بالإجراءات التصحيحية لإنهاء الانقلاب وتهيئة البيئة اللازمة للتحول المنشود يقصد به إعادة أوضاع الحياة السياسية إلى ما كانت عليه في الـ 24 من أكتوبر 2021، وليس إعادة الوضع الدستوري، مشيراً إلى أن التحالف ليس لديه مشكلة مع “حركات الكفاح المسلح” على الرغم من وقوف بعضها ومساندته للانقلاب، لكنها ترى ضرورة إخضاع “اتفاق جوبا” للسلام إلى بعض المراجعات.
واعتبر بابكر أن جلوس التحالف مع كل الآلية الثلاثية والمكون العسكري خطوة إيجابية ساعدت في إطلاعهم على رؤيتهم المتكاملة حول الوضع وما يجب أن يكون عليه الحوار، باقتراح إعادة تصميم العملية السياسية، بيد أنهم في انتظار الاستماع لرؤية المكون العسكري ورد الآلية الثلاثية.
“4 طويلة”
من جانبه، أوضح المحلل السياسي محي الدين يوسف الأمين أن قضية ضيق قاعدة الجماهيرية للحكومة الانتقالية ظلت هي القضية الأساس في الخلاف بين شريكي الحكم منذ توقيع الوثيقة الدستورية العام 2019، وكانت هي القشة التي قصمت ظهر البعير باتهام أربعة أحزاب فقط داخل المجلس المركزي للحرية والتغيير بالاستئثار بمفاصل الحكم، أطلقوا عليها “4 طويلة” تشبيهاً إياها بعصابات الخطف الإجرامية.
وأشار الأمين إلى أن قاعدة المشاركة كانت هي الذريعة الأساس التي اتخذها قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان كمنطلق لإجراءات الـ 25 من أكتوبر وفض الشراكة وحل مؤسسات الفترة الانتقالية، وبالتالي فإن إحداث أي اختراق في هذا الجانب المرتبط بمشاركة أوسع للقوى السياسية والمدنية في الفترة الانتقالية سيشكل بارقة أمل في إمكان توسيع دائرة التقارب في وجهات النظر. واعتبر أن موافقة “الحرية والتغيير” المجلس المركزي المشروطة لتوسيع دائرة المشاركة تمثل أيضاً نقطة انطلاق قابلة للتطوير نحو الاتفاق للخروج من عنق الزجاجة.
ويرى المحلل السياسي أن في الجهاز التشريعي للفترة الانتقالية متسعاً لكثير من القوى السياسية والمجتمعية والفئات الحية والفاعلة من شباب المقاومة وغيرهم من الفاعلين، الذين سيناط بهم تفصيل قوانين الانتخابات وتشريعات التحول الديمقراطي.
ترحيب الميثاق
وعلى نحو متصل، اعتبر نائب رئيس حركة تحرير السودان (أركو مني مناوي) والقيادي في الحرية والتغيير (ميثاق التوافق الوطني) نور الدائم محمد أحمد طه، أن ما ورد في رؤية الحرية والتغيير (المجلس المركزي) حول أهمية توسيع المشاركة السياسية تطور إيجابي من منطلق المبدأ الثابت لهم في مشاركة كل القوى التي شاركت في الانتفاضة بشكل توافقي بين كل الأطراف.
ورحب طه بموقف المجلس المركزي للحرية والتغيير في شأن توسعة المشاركة، واعتبره ناجماً عن مراجعة الأخطاء التي حدثت خلال الفترة الماضية من عمر الفترة الانتقالية، مشيراً إلى أن المجلس المركزي جزء أصيل وأساس من الانتفاضة السودانية، لكنه لا يمثل المشهد كله.
وأكد القيادي في ميثاق التوافق الوطني أن هناك بالفعل أحزاباً شاركت وسقطت مع نظام البشير، لكن هناك من شارك مع النظام السابق بموجب اتفاقات سلام ظلت قائمة حتى الفترة السابقة من المرحلة الانتقالية، ومشار إليها في الوثيقة الدستورية لعام 2019، ولا نرى إقصاءها من المشاركة.
ويردف، “هناك فعلاً قوى لا تصلح للمشاركة في الفترة الانتقالية وهي التي تحالفت مع البشير لحين سقوطه وبالتالي فقد سقطت معه، مبدياً عدم ممانعتهم إخضاع تلك الأحزاب التي شاركت مع النظام السابق للمراجعة في ما يخص مشاركتها سواء في الحوار أو الفترة الانتقالية”.
منعطف جديد
وكانت بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية (يونيتامس) قالت إن الآلية الثلاثية المشتركة واصلت مناقشاتها على المستوى الفني في شأن القواعد الإجرائية لجلسات الحوار السوداني المباشر مع أصحاب المصلحة، إذ التقت منتصف هذا الأسبوع كلاً من وفدي “قوى الحرية والتغيير” (ميثاق التوافق الوطني) و”الجبهة الثورية السودانية”.
لكن عقب اللقاء دخلت الأزمة السودانية منعطفاً جديداً انتقل فيه الخلاف من بين فرقاء الساحة من القوى السياسية إلى ما بين الآلية الثلاثية وبعض القوى السياسية، وذلك بعد التداول الواسع لأنباء انسحاب الاتحاد الأفريقي، الثلاثاء الماضي، من الآلية الثلاثية التي ترعى الحوار السوداني احتجاجاً على ما وصفه السفير محمد بلعيش ممثل الاتحاد في الآلية الثلاثية بغياب الشفافية ونهج المراوغة والأجواء الإقصائية التي تسود الساحة السياسية، إلا أن مكتب الاتصال بالاتحاد الأفريقي في الخرطوم أصدر لاحقاً بياناً مقتضباً نفى فيه الانسحاب.
وكان محمد بلعيش قال في مؤتمر صحافي لرئيس بعثة الاتحاد في السودان عقب اجتماع مع “وفد الحرية والتغيير (ميثاق التوافق الوطني) المؤيدة للمكون العسكري، إنه تلقى توجيهات من قيادة الاتحاد الأفريقي بعدم المشاركة في أي اجتماعات لا تعامل كل الأطراف الفاعلة على قدم المساواة، أو تقوم على المراوغة في أجواء إقصائية لا تتوفر فيها الشفافية اللازمة.
وأضاف بلعيش أن “الاتحاد الأفريقي لا يطلب دوراً في الأزمة السودانية ولا يعترض على أي طريقة يختارها السودانيون لترتيب بيتهم وحل أزمتهم، بل يسأل لهم التوفيق في كل ما يقومون به، لكن قيادة الاتحاد الأفريقي وجهت البعثة بعدم الحضور”.
ورداً على تصريحات بلعيش شن “تحالف الحرية والتغيير” المجلس المركزي هجوماً عنيفاً عليه، وأكد بيان صادر عن لجنة الاتصال والعلاقات الخارجية بالتحالف أهمية منبر الآلية الثلاثية والدور الذي يلعبه الاتحاد الأفريقي، وأهمية البلدان الأفريقية والعربية والمجتمع الدولي في دعم مجهودات السودانيين للوصول إلى حل سياسي ينهي الانقلاب ويحقق غايات التحرك.
ودان البيان تصريحات السفير بلعيش الذي رأى أنه ظهر في الزمان والمكان الخطأ، ولم يراع حيادية الاتحاد الأفريقي واستقلاله كواحد من مسهلي العملية السياسية، ففي حين تحدث عن ضرورة عدم الإقصاء فإن المنصة التي تحدث منها أحاطت بها شخصيات معروف دورها في دعم الانقلاب والاعتصام الذي سبقه أمام القصر، وتساءل البيان “عن أي إقصاء يتحدث السفير بلعيش؟”.
المضي قدماً
وأكد بيان “الحرية والتغيير” موقفها الاستراتيجي من قضايا السلام ودعمها طريق إكماله، من منطلق السعي إلى السلام والعدالة والانحياز لقضايا النازحين واللاجئين والمهمشين وكل الذين طالهم ظلم الدولة وانتهاكها للحقوق الفردية والجماعية في كل أنحاء الوطن.
وأشار إلى أن التحالف سيسعى إلى الاجتماع مع الاتحاد الأفريقي بمقره في أديس أبابا لمناقشة أعمق حول القضية السودانية وكيفية الخروج من الأزمة.
وقال في بيان، “نؤكد على موقفنا الثابت من ضرورة أن يكون الحل السياسي شاملاً يحقق مطالب الانتفاضة”، ورفض أن تكون العملية السياسية بوابة لخلق حاضنة سياسية مصنوعة ومتحكّم فيها، مشدداً على ضرورة تحديد أطراف العملية السياسية ومراحلها بصورة تضمن شمول الحل من دون إغفال أو إقصاء أي طرف من الأطراف، بما يشمل قضايا الانتفاضة والالتزام بالتحول المدني الديمقراطي.
لا شراكة جديدة
وعلى صعيد متصل، وصف عضو مجلس السيادة الانتقالي السابق محمد الفكي المجموعات المتحالفة مع المكون العسكري بأنها “مصنوعة”، قاطعاً بعدم عودة الشراكة أو أي اتفاق ثنائي مع المكون العسكري، منوهاً إلى عدم تلقي “تحالف الحرية والتغيير” رداً من العسكريين في شأن رؤية إنهاء انقلاب الـ 25 من أكتوبر 2021 حتى الآن.
ولفت إلى أن “الحرية والتغيير” في وضع أقل مما كانت عليه العام 2019 عند دخولها الحوار مع المكون العسكري، إذ كانت وقتها مفوضة من الشارع السوداني بخلاف الوضع التي هي عليه الآن، إذ لا تملك فيه مثل ذلك التفويض.
وبيّن عضو مجلس السيادة السابق أنهم لن يضطلعوا بمهمة تشكيل المشهد السياسي منفردين، “لكن مع كل قوى الانتفاضة الأخرى مثل لجان المقاومة والحزب الشيوعي والحركات غير الموقّعة على اتفاق السلام عبر مركز موحد يكتسب صفة دستورية في الإعلان السياسي المنتظر”.
وكانت بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم التحول الديمقراطي في السودان (يونيتامس) شرعت في البحث عن حل للأزمة السودانية منذ مطلع يناير (كانون الثاني) الماضي، لتسهيل الحوار السوداني بين أطراف الأزمة.
وانضم الاتحاد الأفريقي إلى تلك الجهود في الشهر نفسه لجهود البعثة، ثم التحقت بمساعي البعثة منظمة شرق ووسط أفريقيا للتنمية (إيغاد)، وشكلت الأطراف الثلاثة آلية ثلاثية لرعاية الحوار السوداني، وبدأت “الآلية الثلاثية” العمل في مارس (آذار) الماضي على أولى مراحل التشاور الفردي غير المباشر مع القوى السياسية من الأطراف المختلف.
وفي الثامن من الشهر الحالي دعت الآلية إلى انطلاق جلسات الحوار المباشر، لكن تحالف “قوى إعلان الحرية والتغيير” (المجلس المركزي) قاطع الجلسات، مما دفع الآلية إلى تعليق الجلسات قبل أن تتوسط الولايات المتحدة الأميركية بواسطة مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية مولي في والسعودية عبر سفيرها في الخرطوم لترتيب لقاءات موازية بين “تحالف الحرية والتغيير” (المجلس المركزي) مع المكون العسكري على أمل التوصل إلى صيغة توافقية تعيد إطلاق جلسات الحوار من جديد.