ديسمبر عام 2017 رتب لي صديقي البديري خبير دهاليز أوروبا لحضور مهرجان في هولندا، اشتعلت الفكرة في رأسي لمعايشة تجربة جديدة فى مدينة تعيش تحت سطح البحر رغم أن ديسمبر في تلك البقاع يدثر كل شيء بثوبه الأبيض ويهبط بدرجة الحرارة إلى ما دون الصفر لكن كما هو السفر دائما قرين الاندهاش ففي ذلك دهشة وافرة للقادم من سهوب وأطراف صحاري تأكل رموش العين وينكمش معها الجبين.
هولندا بلاد الزهر والعطر وطواحين الهواء يطلق عليها أهلها تحببا مملكة الأراضي المنخفضة ونصف البلاد تحت سطح البحر وخمس المساحة يتشكل من بحيرات وقنوات مائية وترقد البلاد كلها في الركن الغربي من شمال أوروبا يغسل شواطئها الناعمة بحر الشمال الذي هو صديقها وعدوها في آن واحد.
استقلينا سيارة من مدينة لوكرن البلجيكية وعزمنا غزو الأراضى الهولندية طوليا من جهة الغرب، لا حدود فاصلة تنبئك بمغادرة أرض الفلمنك إلا أن تغير المشهد يمنحك الاحساس بالعبور، انتابني شعور أننا لا نسير على الأرض وإنما على بساط منسوج من حرير، زهرة التوليب تغطي المساحات الواسعة وحقول الورود والزهور التى جمعت كل بهاء ألوان الدنيا تنتظم في خطوط طولية وعرضية على جانبي الطريق وتشكل لوحات يصعب وصفها بالكلمات.
هذه مدينة انتويرب عاصمة الألماس وأكبر موانئ غرب أوروبا استقبلتنا وهي ترش عطرا لمقدم زائريها، ضاجة وعامرة بحكايات ملوك البحار وأعالي المحيطات.. المسافة إلى أمستردام تستغرق ساعتين وتمنيت أن تكون يوما أو أمضى هكذا دون توقف، فالمشاهد الخلابة تأخذ بزمام نفسك، وطواحين الهواء على جنبات الطريق بلونها الأبيض وسط السهول المنبسطة الخضراء والروابي المتناثرة والأبقار بألوانها المتباينة.. يا إلهي كل هذه المشاهد تحتشد في رقعة واحدة فكيف للإنسان أن يستوعب تفاصيلها والسيارة تأخذ مسارا وسطا في الطريق السريع ما يجعل كل ذلك كأنه حلم عابر عند فلق الصباح.
دخلنا مدينة لاهاي باسمها العربي.. ودن هاغ عند الهولنديين.. المدينة الثانية من حيث الأهمية السياسية في البلاد ومقر إقامة الملك وولي عهده وكبرى المؤسسات ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، من داخل السيارة تجولنا في بعض شوارعها وكانت السماء تنذر بهطول المطر، استظلت المدينة بغيوم داكنة، جلسنا في مقهى قبالة الجنائية الدولية واحتسينا فنجان قهوة دون أن أغرق في تفاصيل المدينة وواصلنا المسير.
البديري .. ما هذه المدينة التى تطالعنا بناياتها الزجاجية اللامعة وتصميماتها المدهشة وجسورها التى تعلوها أوتار متشابكة ، يجيب الصادق بعد أن تمطى في مقعده وأخرج نفسا عميقا كان مزيجا من إعجاب ودهشة.. إنها مدينة روتردام.. مدينة التجارب الجريئة ومدينة الخيال بالنسبة لعشاق فن العمارة.. سترى بناء محطة نوتردام أكثر بناء مبهج على الإطلاق في العالم والذي يبدو محلقا في الهواء، نفق المحطة مصمم كذيل الطاووس يتدلى من طرفه، سترى سحرا يفوق خيالك في هندسة الشوارع وألوان المباني وروعة المطاعم والمقاهي والملاهي .. إنها مدينة فاتنة وحيوية وتوفر كما هائلا من السعادة والانشراح .
بعد ساعة من الزمان ها نحن في العاصمة أمستردام مدينة المراسي أو مدينة الألف وجه كما توصف، طراز معماري فريد بألوان باهرة ومبان عتيقة تعود لقرون، تحت ظلالها جلس الفنان فان غوخ ليرسم لوحته الشهيرة ( ليلة النجوم) .. الدراجات وسيلة النقل الشعبية يفوق عددها عدد السكان وتسد عليك الطرقات كأنما المدينة فى مارثوان.. أرصفة حجرية تحكي عن تاريخ تالد تدرك معها معنى عبارة ( على مر العصور) . أزقة تضيق وتنبسط خرج من بين ثناياها فان باستن، وروبن فان برسي، ورود غوليت، أساطير كرة القدم الهولندية وما أدراك ما أياكس أمستردام وآيندهوفن.. حِسانٌ يتهادين مع فوح الأزاهير بتكوين بدني وطول فارع ووجوه كأنما رضعت من ثدي القمر وضاءة ونضارة..المدينة تتضوع عطرا وتتنفس جمالا .
امستردام تسبح في قنوات مائية تتنتشر كالشعيرات الدموية لتغذية جسدها .. المقاهي والمطاعم متراصة على حواف هذه القنوات يقصدها السياح من كل الأرجاء لأن الممنوع فيها مباح ومتاح ومبذول بكل جرأة وأدب تحت رعاية السلطان، هنا يستبد بك الذهول مما ترى عيناك ولن أزيد..
في ساحة الدام الشهيرة رئة المدينة والتى تتوسط أمستردام قصدنا متحف الشمع الشهير أو متحف مدام توسو والذي تنتشر في ساحته أسراب الحمام، الساحة كلها تتمايل طربا وسط غابات المعازف والمزامير، والراقصون يبتدعون أشكالا من العربدة بأجسادهم لم تقع عليها عيني من قبل.. المدينة قطفت من كل فن نغما وأنشودة لتطبع بها وجهها المليح…عالم ترك كل شئ وراءه وانكفأ لتحقيق أقصى درجات المتعة بالحياة..لا تثريب عليهم فهؤلاء القوم عندهم فائض حياة حتى الأجبان عندهم بحجم إطار السيارة.. لاغبار عالقا في مدنهم ، من فوقهم مطر هتون يغسل المباني والنفوس ومن تحتهم أرض تميد بالمياه تبنت كل شئ، الطبيعة هناك تغازل الإنسان في صحوه ومنامه.
المتحف تتراص فيه تماثيل أشهر الشخصيات فى العالم مصممة من شمع بمهارة تكاد معها تحس خلجات شخوصه وصدى أنفاسها، تجولت وأنا أردد البسملة وخرجت في فضاء رحيب يطل على قصر ملكي عتيق أشتريت حبوبا وبدأت أنثرها تحت أقدام الحمام ومن خلفي جوقة موسيقى تعزف لحنا كأنما تتراقص عليه الحمائم .
قصدنا المهرجان ، وأي مهرجان ؟ فالبلاد كلها كرنفال.. كان الطقس يومها باردا جدا، الكل بمعطفه ومظلة المطر، شعرت بالبرد ينسرب في أوصالي واصطكت أسناني.. في المدخل الرئيسي للساحة استقبلتنا فتاة متوهجة تنثال رقة وفتنة وعذوبة ، لا أدرى من أي المدارات جاءت وفي أي الفصول كان مقدمها، غراء فرعاء، يستحي ياسمين الدنيا من جمالها، بين يديها باقة ورد وحبات شوكلاتة ، انثنت بأعطافها وتبسمت بلؤلؤ منضود كبرق في عتمة الليل وكأنها لم تخلق لغير هذا التبسم ،، لا جدوى لمزيد حديث عنها سوي الصمت.. ومع صمتي المرتبك شعرت أن الجو أصبح أكثر دفئا.. وكانت هي المهرجان…