أول إنقلاب عسكري في تاريخ السودان الحديث كان بقيادة الصاغ عبدالرحمن كبيدة بتاريخ 14يونيو 1957 أي بعد عام و نصف من تاريخ الإستقلال و تكوين أول حكومة وطنية بعد خروج الإحتلال الإنجليزي و سقط إنقلاب كبيدة ولم يكتب له النجاح ولكن توالت بعده الإنقلابات العسكرية و تجاوزت العشرون إنقلاباً على مدى سبعة و ستون عاما بواقع إنقلاب عسكري كل ثلاث أعوام تقريبا منذ الإستقلال و ربما حملت صدور الرجال و دهاليز القوى السياسية أعداد مضاعفة من النوايا الإنقلابية لم يتم رصدها و هذا وحده يكفي لتأكيد أن الإنقلابات العسكرية في السودان قد تحولت من حالة أو حدث عابر إلى عقلية و ظاهرة إجتماعية تنتاب المجتمع و مؤسساته و تتلبس كل الأحزاب و المكونات السياسية و الفكرية و تتجاوز الصورة الذهنية التقليدية للإنقلابات و إرتباطها بالمؤسسة العسكرية و الأجهزة الأمنية و الشرطية مما يستدعي الحوجة الماسة إلى معالجات فكرية عميقة تتجاوز الحلول التقليدية وصندوق المعالجات القديم بإتباع آليات جديدة مبتكرة و ملهمة تعالج جذور الأزمة على المستوى الوطني بمعنى كسر هيمنة الأجندة السياسية و سيطرتها على العقل المجتمعي بإعتبارها المخلص و بإعتبار أن الساسة هم الأوصياء على الشعب و على بناء دولته و على العكس عما يحدث تماما حيث أن الساسة هم العامل الأساسي في تكوين المشهد العام للأزمة بكل إسقاطاته الأفقية و الرأسية و إنقلاباته و إنقساماته المجتمعية و ما أصاب المجتمع بكلياته من تشوهات على مستوى التفكير الجمعي لجملة المفاهيم المرتبطة بتأسيس و بناء الدولة نفسها و تحولها من المربع الوطني الواسع إلى المربع القبلي أو الطائفي أو الأيديولوجي الضيق، فحينما نُخْضِع مثلا الشعار التاريخي للثورات السودانية .. يسقط يسقط حكم العسكر.. للتشريح نجد أنه يعبر بصورة مباشرة و يستهدف إسقاط الإنقلاب أو النظام القائم حينها من خلال رموزه وواجهاته العسكرية لا هزيمته كفكرة و الفرق شاسع بين السقوط و الهزيمة فإذا كان السقوط يعبر عن معالجة الإنقلاب في مظهره العسكري فقط دون الولوج عميقا و سبر أغوار جوهر الظاهرة بإمتداداتها السياسية و المجتمعية فإن هزيمة الإنقلاب تعني إستئصال الإنقلاب من جذوره مما يستدعي إحداث نقلة ذهنية بتحويل الإنقلابات من كونها هي المرض إلى أنها أحد أعراض المرض السرطاني المستشري في جسد الأمة بكل كياناتها السياسية والمجتمعية و التاريخ هو الشاهد فالناس في بلادي مثلهم مثل الأحزاب و النخب ليسوا مبدئيين في مواقفهم تجاه الإنقلابات العسكرية و إنما ينقسمون إلى فريقين أو أكثر بقدر قربهم أو بعدهم من المجموعة التي قامت بالإنقلاب و هذه دلالة أخرى على أن العقلية الإنقلابية مرض عضال و سرطان متمكن من عقل و مشاعر الأمة السودانية، و كل الذين يدعون أنهم ضد الإنقلابات العسكرية إنما ينطلقون من مواقف تكتيكية و ليست مبدئية و دونكم التاريخ قديما و حديثاً. إن الأحزاب السياسية حينما تدعوا الجماهير للخروج لإسقاط الإنقلاب أوالنظام فهي تفعل ذلك بدوافع حزبية أيدلوجية لا وطنية و هي لا تستهدف في عقلها الباطن إسقاط الإنقلاب بل تستهدف إسقاط الخصم السياسي بدوافع إقصائه أو إستئصاله من جذوره و ما بين إنقلاب كبيدة و برهان بضع و عشرون إنقلابا و سبعة و ستون عاما لم تنجح فيها الأحزاب في معالجة الأزمة المستفحلة لسبب واضح و جلي هو أن الأحزاب نفسها تمثل رأس الأزمة و تحتاج إلى التحول فكريا من ممارسة السياسة من خلال مفهوم القبيلة أو الطائفة أو الأيدلوجيا إلى مفهوم الوطن الجامع للقبائل و الطوائف و الأيدلوجيات و الإنقلابات نفسها هي تعبير عن حالة فشل و إنسداد في الأفق السياسي و عجز في القدرة على التفاهم و الحوار الوطني لا الحزبي فضلاً عن حالة الإنقسام المجتمعي لذات الدوافع السياسية أكثر من كونها تعبير عن طمع عسكريين محترفين في السلطة ( الطمع يأتي لاحقاً) و لذلك فلا مجال لمعالجة حالة الإنقلابات العسكرية مالم تعالج أزمة الإنقسام المجتمعي و ما بين إنقلاب كبيدة و إنقلاب برهان أكثر من عشرون إنقلاب و سبعة و ستون عاما لم نستطع من خلالها معالجة الأزمة لأننا نمضي على الطريق الخاطئ بإصرار لانحسد عليه و لأن من بيده مبضع الجراح المعالج هو نفسه من صنع الأزمة.
إن محاولات هزيمة أو إنهاء الإنقلابات العسكرية عن طريق إسقاط العسكريين الذين يمثلون هرم السلطة الإنقلابية و بذات الأدوات القديمة و المجربة دون ملامسة جذور الأزمة هي محاولة يائسة لتكرار أو تدوير لذات التاريخ القديم المليئ بالجراحات و الإحباطات المتراكمة التي لن تزيد الأزمة إلا إشتعالاً، و لذلك يظل الفرق شاسعا و جوهريا بين أنك تريد أن تسقط الإنقلاب كحالة عسكرية و بين أنك تريد أن تنهي أو تهزم عقلية الإنقلاب كظاهرة مجتمعية مستشرية و متأصلة في المجتمع بكل مكوناته و حينها فقط تصبح فرضية إسقاط الإنقلاب هي الحلقة الأضعف من حيث التأثير و هي الأقل و الأدنى و الأقل أهمية من حيث ترتيب الأولويات لما لها من كلفة باهظة الثمن بحساب الوقت و الخسائر البشرية و دونكم التاريخ فضلا عن إنعكاساتها و تأثيراتها السالبة على سير عمليات المعالجات التنموية على المستوى البشري و الإقتصادي و الدستورية على المستوى التشريعي و التنظيمية على المستوى الهيكلي بإعتبار إن أحد الأسباب الجوهرية للأزمة في السودان هي أن الحصول على المال و الجاه و إحساس الأمان و الحماية في المفهوم الجمعي للمجتمع مرتبط إرتباطا وثيقا بالسلطة و لذلك فإن أحد مفاتيح حلول الأزمة مرتبط بشكل جدي بالحلول الإقتصادية و التنموية كأولوية قصوى و ملحة من جهة و بالتنمية البشرية و تطوير الذات من جهة أخري.
في إطار البحث عن حلول لأزمة العقل الإنقلابي في السودان أثبتت التجربة أن لا جدوى من حشر الشباب المقاوم في مواجهة غير متكافئة و خاسرة لا محالة مع القوى العسكرية و الأمنية و الشرطية بحساب الأرواح و الدماء و النتائج المرجوة إذا كانت المقاصد مرتبطة بالقضية الوطنية أما إذا كانت المقاصد في إطارها القبلي و الطائفي و الأيديولوجي فقد سقط من قبل إنقلاب كبيدة و توالت بعده الإنقلابات و سقط عبود و جاءت بعده إنقلابات و هكذا النميري و البشير و إبن عوف وحتما سيسقط إنقلاب برهان عاجلاً أو آجلا كما سقط السابقون و لكن صدقوني طالما أن العقلية الإنقلابية هي التي تهيمن على المشهد بكل مكوناته السياسية و الفكرية و المجتمعية فلن تتوقف الإنقلابات وحتما لن يكون البرهان هو الآخير … نواصل.