مقاومة أرق الحزن على النفسِ والوطن أغراني هذه الأيام بترتيب مكتبتي الخاصة، فترتيب المكتبات ومعاودة صلة الوصل مع الكتاب والمؤلفين من نعم الدنيا التي لو أدركها الملوك لجالدوا الوراقين عليها بالسيوف البواتر.
فقد استوقفني اهداء لطيف من الدكتور الراحل أحمد الطيب ابن القطب العارف الفاتح قريب الله الذي تشرفت بالتلمذة على يديه بالمدرسة الأهلية العامة بأمدرمان الكائنة بجوار منزل الزعيم الراحل الشهيد اسماعيل الازهري، وتلك مرحلة أدركنا فيها الدكتور محي الدين صابر بسلمه التعليمي الجديد. فقد تعود الدكتور احمد الطيب أن يخصنا بمدارسة اسبوعية ما بعد الحصص الراتبة حيث يختار نصاً من فصوص الحكمة والزهد والتصوف كان يمليه علينا ويطلب منا بجملة شهيرة ما الذي استوقفك في هذه الحكاية؟ وقد أملا علينا يوماً حكاية الإمام البصري والإمام الشعبي مع ابن هبيرة حيث يقول النص:
أمير العراقين – أي الكوفة والبصرة – دعا عمر بن يزيد بن هبيرة كلا من الحسن البصري وعامر بن شراحبيل – الشعبي – رحمهما الله وقال لهما : إن أمير المؤمنين يزيد ابن عبد الملك قد استخلفه الله على عباده , وأوجب طاعته على الناس , وقد ولانى أمر العراق ،ثم زادني فولاني خراسان ، وهو يرسل إليّ كتبا يأمرني بإنفاذ ما فيها ,بعضها لا أبدي ارتياحا لها ،فهل تجدان لي في إنفاذ أوامره , مخرجا في الدين ؟!
شراحبيل الشعبي رحمه الله حاول الرد علي تساؤل ابن هبيرة عبر شبهة مجاملة للخليفة ، ومسايرة للولي فيما لاذ الإمام حسن البصري بالصمت فما كان من عمر بن هبيرة إلا أن يلتفت إلي الإمام البصري ، وقال : ما تقول أنت يا حسن ؟
الحسن رد علي الوالي قائلا : يا ابن هبيرة ، خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله وأعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد وأن يزيد لا يمنعك من الله عز وجل .
يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره، فيزيلك عن سريرك هذا، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، حيث لا تجد هناك يزيد، وإنما تجد عملك الذي خالفت فيه رب يزيد، يا ابن هبيرة إنك إن تك مع الله تعالى وفي طاعته يحميك من يزيد في الدنيا والآخرة, وإن تك مع يزيد في معصية الله تعالى، وكلك الله إلى يزيد .
الإمام البصري: واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق كائنا من كان في معصية الخالق عز وجل، فبكى عمر بن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته ،ومال عن الشعبي إلى الحسن ،وبالغ في إعظامه .
فلما خرجا من عنده توجها إلي المسجد فاجتمع عليهما الناس وجعلوا يسألونهما عن خبرهما مع أمير العراق, فالتفت الشعبي إلى الناس ثم قال : أيها الناس : من استطاع منكم أن يؤثر الله عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل, فوالذي نفسي بيده ما قال الحسن لعمر ابن هبيرة قولا أجهله، ولكني أردت فيما قلته وجه ابن هبيرة ،وأراد فيما قاله وجه الله، فأقضاني الله من ابن هبيرة ، وحببه إليه.
قرأنا النص أكثر من مرة وطالبنا كعادته بالتعليق وأذكر تماماً أن الإخوة الطلاب في ذلك المجلس المبارك قد اطنبوا في مدح الإمام حسن البصري وأشادوا بفضله وشجاعته، وآخرون أسرفوا في مدح كلماته وموعظته وجليل مفرداته، وآخرون غرقوا في مدح ابن هبيرة وكالوا الثناء لدموعه الغزار ونزوله على الحق وتواضعه بين يدي العلماء، وكانت دهشة شيخنا أحمد الطيب كبيرة حين سألني ولم أرد يومها التعليق، لكنه أصر والجميع صامتون وهو ينتظر في صبر وجلد فقلت: أما أنا فقد استوقفني اعتراف الشعبي وشجاعته في نقد طمعه وشح نفسه أمام حشد المصلين والمتسائلين مع أنه ما كان مضطراً لذلك، ولكنها صدقية العارف وشفافيته تلك الفضيلة التي يفتقدها الكثير من العلماء. وفي اللحظة التي كنت انتظر فيها سخرية الرجل وتقريعه صاح في فرحٍ بائن: الله أكبر هذا معنى دقيق لم أتوقعه منكم، فكانت الهدية المجموعة النبهانية في مدح المصطفى والتي ظلت رغم مرور كل تلك السنوات تزين صدر مكتبتي.
ولأن الصحافة والاعلام تُغري بوصل الأصل بالعصر فقد ظللت أتدبر طول ليلي موقف قادة أحزابنا في قلب هذه الأزمة والفاجعة التي كادت أن تعصف ببلادنا الحبيبة أو بالأحرى أنها قد فعلت وهاهم للأسف يتلذذون بتمر الفترة الانتقالية، ويخافون من جمر الانتخابات والاختيار المر. فاليمين غارقٌ في الشماتة على فشل غريمه اللدود، واليسار فرحٌ بابعاد أعدائه عن السلطة المتطاولة، والأحزاب العدمية نادمة على فوات السلطة التي لم يصدقوا بأنهم سيعتلون كراسيها يوماً والطائفية السياسية تحتمي بالانتقال خوفاً من ماضي الاسم وحاضر الإثم، والقيادات العسكرية تراقب تمزقهم فتصمت عن الأسئلة الصعبة بتبرير المتنبي:-
وكثير من السؤال اشتياق : وكثير من رده تعليلُ
وما أحلى وأغلى الاشتياق حينما يكون حكماً وحاكمية.
الجميع كعادتهم لا يعترفون بما يقولونه سراً في مجالسهم بحجة علنية الدعوة وسرية التنظيم، فهذا زمان ابتلانا بقادةٍ لا يملكون طهر دمع ابن هبيرة، ولا كمال نصيحة البصري، ولا كرامة كبرياء اعتراف للإمام الشعبي.