تقع الآداب والفنون السودانية، في الوعي الثقافي العربي، على مساحة تمتد بين المجهول لدى العامة والمعروف سطحياً لدى المثقفين. ولو كان في هذا القول شيء من تعميم ربما كان مخلاً، فلنلطفه باستثناء أعمال الروائي الطيب صالح، ثم -إلى حد قصير- المغني سيد خليفة المشتهر لدى العرب بأغنيتي “المامبو السوداني” و”إزيكم كيفنكم” (أو ايش لونكم، كما حورتها الذاكرة العراقية).
وفي هذا حسرة، لأن أقل ما توصف به الآداب والفنون السودانية هو أنها “مختلفة”، بمعنى أن لها لوناً وطعماً ورائحة لا تشبه السائد في الدول العربية شبه أحادية التركيبة الثقافية. وهذه الحقيقة وحدها كفيلة برفع قيمتها عندما يتعلق الأمر بنوع الإضافات الضرورية التي يمكن أن تثري الثقافة العربية – الإسلامية عموماً والعربية خصوصاً. وإذا أضفت إلى هذا أنها نفسها عالم فسيفسائي عريض، تضاعفت لديك تلك القيمة مرات عدة.
سيد خليفة (موقع سينما كوم)
يتجلى أبرز سمات هذا الاختلاف السوداني في الموسيقى. فمع أنها فتحت الباب للسلالم الشرقية استماعاً وتذوقاً فقد تخيرت السلم الخماسي لتيارها الموسيقي العام (باستثناء بعض مواطن الأعراق العربية في كردفان، وسط غرب السودان). والخماسي -كما يتضح من اسمه- يتألف من خمس درجات على السلم الموسيقي مقابل سبع للغربي وثمانٍ لسلم مثل النهوند الشرقي – من مجموع 12 نغمة متاحة في أي “أوكتاف” (وهو المسافة بين النغمة الأصل وجوابها). والخماسي، لمن ظن أنه لا يعرفه، هو ذلك المعتبر بمثابة الجذع في شجرة البلوز الأميركية، وهو الذي تقوم عليه موسيقى الشرق الأقصى، كالصينية واليابانية والكورية.
أما سر وقوع الموسيقى السودانية في السلم الخماسي فيتعلق بعوامل ثقافية جغرافية تنبع من سمات الموسيقى الأفريقية عموماً وموسيقى القرن الأفريقي خصوصاً. وأضف إلى هذا سهولة تعلم العزف على السلم الخماسي، لأنه يحتوي على القدر الأقل من النغمات اللازمة لتكوين الجملة الموسيقية الكاملة. وهناك، على نفس درجة الأهمية، عذوبته وخفة وطئه على الأذن، بالتالي سرعة استيعابه لدى السامع. وهل كان لـ”المامبو السوداني” أن تنتشر بين العرب لو كانت على أي سلم آخر غير الخماسي؟
الطيب صالح (غيتي)
الغابة والصحراء
أول ما يلاحظه الباحث أن قضايا التعدد العرقي والديني والثقافي والبحث في الهوية السودانية (وما إن كانت عربية أم أفريقية) انعكست بكثافة قصوى على الشعر والتشكيل قبل غيرهما من ضروب الآداب والفنون. ففي مجال الشعر أتت هذه المسألة في شكل تيار قوي يعرف باسم “الغابة والصحراء” (الغابة باعتبارها رمزاً إلى العنصر الأفريقي والصحراء إلى العربي). وكان بين أبرز أصواته صلاح أحمد إبراهيم في مجموعتيه “غابة الأبنوس” و”غضبة الهبباي” (على الرغم من إصراره المدهش على أن السودانيين هم عرب العرب)، ومحمد عبد الحي في ديوانه “العودة إلى سنار”، ومحمد المكي إبراهيم في ديوانه “أمتي”، والنور أبكر في ديوانه “صحو الكلمات المنسية”، وكثيرون غيرهم أعملوا قرائحهم في هذا المجال.
مبتدع تعبير الغابة والصحراء هو النور أبكر. ومجموعته الشعرية “صحو الكلمات المنسية” (وتعني عودة الوعي بالمركب الأفريقي في بلاد تتحدث العربية) نفسها جاءت معززة بمذكرات عنوانها “لست عربياً ولكن…!” وفي هذه الأخيرة يتحدث عن تجربة عيشه في ألمانيا في أوائل الستينيات ويلخصها بقوله “انتباهي إلى مسألة الغابة والصحراء تم لي وأنا في محيط حضاري غربي رفض هويتي الأفريقية حين أفكر، ورفض هويتي العربية حين أكون”. وكان أول ذكر لعبارة الغابة والصحراء قد ورد في صحو الكلمات المنسية. انظر قوله:
نسقي، نرعى
مولود الغابة والصحراء
من هذا الطافر كالجبل الأسمر
كمنارة ساحلنا الأزرق.
ثم انظر قول محمد عبد الحي وهو يلخص مسألة اللغة – الهوية:
افتحوا الليلة أبواب المدينة
– بدوي أنت؟
– لا
– من بلاد الزنج؟
– لا، أنا منكم، تائه عاد… يغني بلسان ويصلي بلسان.
مدرسة الخرطوم
إبراهيم الصلحي (مواقع التواصل الاجتماعي)
إذا افترضنا جدلاً أن الشعر الفصيح حكر على المتعلمين ووجد بالتالي قدراً من العسر في التغلغل إلى رجل الشارع البسيط، فقد تمكن التشكيل من النفاذ بسهولة كونه فناً مرئياً لا لوازم مسبقة لإدراك مفرداته.
ومن هنا تولى أمر الهوية السودانية وازدواجها العربي – الأفريقي رواد التشكيليين الذين صقلت مواهبهم تجربة الدراسة في أوروبا والاتصال المباشر بالفنون الغربية، وعادوا إلى السودان لنشر الفنون الجميلة باعتبارها علماً يدرس في المؤسسات الأكاديمية على مختلف مستوياتها.
وكان أبرز هؤلاء (شيخ التشكيليين السودانيين الآن) إبراهيم الصلحي بخاصة عندما مضى – مع علمين تشكيليين آخرين هما عثمان وقيع الله ومحمد أحمد شبرين – لإدفاق التيار الفني الذي عرف باسم “مدرسة الخرطوم” على الساحة الثقافية.
هؤلاء الثلاثة – بما أتاحت لهم طاقتهم الهائلة من وصول بفنهم الجديد إلى رجل الشارع – وضعوا نصب أعينهم تناول المادة السودانية الخام (مثل زخارف الصناعات اليدوية التقليدية) وتكريرها وتصفيتها أولاً في وعاء التعريف الكلاسيكي للفنون التشكيلية، وثانياً في وعاء محدد هو جماليات الحرف العربي وهو أحد أبرز الفنون الجميلة الإسلامية. ومع ذلك فلم يكن الغرض هو سودنة تجربة هؤلاء الرواد المكتسبة وراء الحدود بقدر ما كان بلورة للفن السوداني -بترابه ونيله وصحرائه وغاباته ومختلف أبعاده الاجتماعية والدينية- كهوية متفردة تستحق أن تصبح بين مفردات القاموس التشكيلي العالمي.
ويقول الصلحي إن استخدام الحرف العربي قاعدة للتشكيل “يفرض نفسه على وجه الخصوص لدى جماعة البعد الواحد العراقية (اتخذت اسمها من أن الحرف العربي يقوم على بعد واحد هو في الواقع أصل الأشياء)، وديناموها المحرك الراحل شاكر حسن آل سعيد. على أن ما يميز مدرسة الخرطوم هو أنه بينما يوظف الفنانون العرب الحرف للتعبير عن ثقافة عربية إسلامية، فإن السودانيين يوظفونه للتعبير عن ثقافة عربية إسلامية لا يمكن أن تنزع عنها عنصرها الأفريقي الأسود”.
بينما اتخذ تيار “الغابة والصحراء” الشعري و”مدرسة الخرطوم” التشكيلي من الهوية العربية – الأفريقية مادة إبداعية في حد ذاتها، انهمك آخرون في نوع الإبداع الذي يتوقعه المرء في بلاد تبدأ بالنخلة في شمالها وتنتهي بالأبنوسة في جنوبها. وبغض النظر عما إن كانت أعمال هؤلاء قد أنجزت بخوض متعمد في ازدواجية الهوية السودانية أو غير متعمد، فإن في مجرد التعبير باللسان العربي في بلاد سوداء تفرداً لن تجد له مثيلاً سواء في العالم العربي أو في أفريقيا الزنجية.
عثمان وقيع الله (موقع الراكوبة السوداني)
بالطبل الصوفي
تاريخياً، تجد أن الطريقة التي حل بها الإسلام في السودان صارت بين أهم منابع التفرد الثقافي في البلاد، فقد صارت هذه الرقعة من العالم هي الوحيدة لم يأتها الدين الجديد بحد السيف، وإنما بالطبل الصوفي. وصار السوداني بمر العصور عربياً لأنه عربي اللسان والدين على الرغم من أن العربيسلامية هذه لم تغير اسوداد لونه ولم تسلبه فطرته الأفريقية. وأضف إلى هذا أن بلاده (رسمياً حتى الانفصال إلى دولتين في 2011) تبدأ بالصحراء ونخلها شمالاً وتنتهي بغاباتها الاستوائية وأبنوسها جنوباً، وتستضيف – جنباً إلى جنب مع الإسلام – ديانات تبدأ من مختلف العقائد الوثنية وتنتهي بالمسيحية… وتتحدث بمئة لسان ولسان.
هذا التعدد الثقافي القائم على العنصرين العربي – الإسلامي من جهة والأفريقي الصرف من الأخرى صار بحد ذاته هو الهوية السودانية المتفردة بعنصريها العربي والزنجي. وفي سبيل النظر في هذه الخاصية ومكوناتها ومعناها ومضامينها نصبت منابر فكرية شهدت مجادلات عميقة منذ عقدي الستينيات والسبعينيات الماضيين في أعقاب الاستقلال. وهذه جدالات لا تزال مستمرة حتى بعد انفصال الجنوب الأفريقي الخالي بشكل شبه كامل من الأثرين العربي والإسلامي.
جمر تحت الرماد
إضافة إلى تميز الثقافة السودانية بكونها تضع ساقاً في العروبة وإسلامها وأخرى في الأفريقية وموروثها الشفاهي، فهي لم تغلق أبوابها في وجه أي رياح من أي جهة أتت. ومثلاً، على عكس المغرب العربي الكبير الذي استدعت ظروفه التاريخية والنضالية أن يسعى إلى محو القدر الأكبر من تركة الاستعمار الفرنسي، فطن السودانيون إلى أن التركة الثقافية البريطانية تعادل وزنها ذهباً. فاحتضنوا، مثلاً، نظام التعليم الغربي وجعلوا الإنجليزية لغة رسمية ثانية. وهكذا صارت كلية غردون التذكارية (جامعة الخرطوم لاحقاً) أحد أكبر الصروح الأكاديمية في عموم العالم العربي وأفريقيا (حتى السبعينيات عندما اختطفتها الأنظمة العسكرية المتعاقبة مع بقية الهرم التعليمي).
أما العامل الأهم على الإطلاق في ذلك الطعم الخاص فيتعلق أولاً وأخيراً بالتأويل السوداني للإسلام، إذ اعتبره شأناً خاصاً بين المرء وخالقه لا دخل للدولة أو غيرها به (ما لله لله وما لقيصر لقيصر). وكان أحلى ثمار هذا النهج السليم تنامي العقل الفلسفي الذي أشاع القناعة بالخطر العظيم في الجمود وأهمية الشك والبحث والتيقن، ثم اعتبار اليقين نفسه ساكناً مترهلاً بحاجة إلى الحركة اللا نهائية. وكان طبيعياً أن يؤتي هذا الحال نقلة نوعية في سائر ضروب الثقافة وعدت برفعه إلى مرتبة لم تشهدهما المنطقة من قبل. ولكن…! أتى على السودانيين من قال إن الله أسرى به فوق سماء الخرطوم، فأتت تلك الحقبة المجيدة إلى ختام. ومع ذلك فالناظر اليوم إلى مسرح الأحداث السودانية يرى تحت الرماد وميض جمر… والنار بالعودين تذكى.
عود التشكيل وعود الشعر مجدداً؟
سنرى!