ضل الحراز
من أقوي الشعارات التي صدح بها ثوار أكتوبر ١٩٦٤م (الكهنوت مصيرو الموت) ونادت تلك الشعارات بإفساح المجال للأجيال الجديدة وإعتماد مبدأ التداول السلمي للزعامة والسلطة إلا أن عقارب الساعة توقفت عند ذلك الجيل كأنما كانت الشعارات غرضها عملية إستبدال (هرقل بهرقل) وعزل فرعون لفرعنة فرعون جديد يردد بكل كبرياء وصلف (ما أريكم إلا ما أري) فعلي مبدأ لا زعامة للقدامي نازع الإمام الصادق المهدي عمه الإمام الهادي زعامة حزب الأمة فنال مبتغاه ليحكم الحزب حتي وفاته وفعل عبد الخالق محجوب مثله حينما نازع الزعامة سكرتيري الحزب السابقين عوض عبد الرازق وعبد الوهاب زين العابدين وحينما آلت إليه الأمر حكم حتي مقتله في مغامرة إنقلابية لم تكتب لها النجاح بينما الترابي مرشد الاخوان المسلمين نازع الزعامة دكتور مالك بدري ومحمد صالح عمر والحبر نور الدائم والصادق عبد الله عبد الماجد القيادات الأوائل للتيار الإسلامي فأحدث شرخاً في التنظيم لكن الترابي بعدما حقق ما يريد صار الزعيم الملهم رغم أنف شعارات ثورة أكتوبر التي رفعها لا زعامة للحرس القديم وبقي زعيماً حتي وفاته وفي أواخر سنواته شرب من ذات الكأس حينما نازعه تلامذته في واقعة مذكرة العشرة التي تطورت لاحقاً لتحدث المفاصلة فيمم شطر حزبه الجديد (المؤتمر الشعبي) متمسكاً بالزعامة وحزب البعث العربي لم يكون بعيدا عن ذلك فعندما إنتخب محمد سليمان الخليفة عبدالله التعايشي عضواً في القيادة القومية للحزب في فبراير ١٩٦٨م وأميناً لسر الحزب بالسودان وهو بمثابة رئيس الحزب وفي يوليو ١٩٧١م إنتقل الخليفة الي الرفيق الأعلي إثر تحطم الطائرة التي يستغلها في طريقه الي الخرطوم وهي طائرة عسكرية محملة بالسلاح بغرض مساندة الإنقلاب الشيوعي بقيادة هاشم العطا لمناصرة إنقلابي ضد إنقلابي
فإختار الحزب مؤقتاً محمد علي جادين وفي سنة ١٩٧٦م
تولي بدر الدين مدثر أمانة سر القطر حتي وفاته عام ٢٠٠٦م
منذ ذلك الوقت يقود علي الريح السنهوري حزب البعث كأمين سر وحزب الإتحادي الديمقراطي الوحيد الذي حصن نفسه من مشكلات التنازع لأنه توقف منذ تاسيسه عند محطة محمد عثمان الميرغني الذي يترأس الحزب من مهده سنة ١٩٥٢م حتي يوم الناس هذا والتنازع ليس بأمر جديد فقد كان سبباً في ذهاب الشيخ بشير ود عقيد من قرية أم الطيور قرب عطبرة سنة (١٨١٦_ ١٨١٧م) إلى مصر مغاضباً ليطلب من محمد علي باشا الإعانة على قتال خصمه ألمك نمر ملك الجعليين الذي أقصاه من مشيخته وضيق عليه الخناق وكان الشيخ بشير يعتقد أن محمد علي باشا سيقدم له المساعدة اللازمة فابقاه محمد علي باشا وأكرم وفادته حتى أعد العدة وأرسله مع جيش الفتح الذي سار لغزو السودان وأنعم عليه بالباكوية وعينه شيخاً على منطقة شندي في آخر الأمر بعد هروب ألمك نمر إلى الحبشة فالتنازع بين المك نمر الذي بطش بالمك بشير ود عقيد عمدة الجعليين حتي أدرك ود عقيد أن لا محيص من هلاكه ونزع الرياسة من اهل بيته ادي الي فرار الأخير الي مصر عن طريق ابو حمد لاجئاً كما ورد في كتاب(في شأن الله أو تاريخ السودان كما يرويه أهله للمؤرخ محمد أحمد الجابري واوضح الكاتب بأن فتح السودان تم بناءاً علي دعوة اهله اي عار هذا فقد سير محمد علي باشا حملته بقيادة ابنه الأمير إسماعيل وألح عليه بأن لا يأتي أمراً بغير مشاورة رفيقه المك بشير ود عقيد (المرجع نفسه) بل كان محمد علي باشا يكتب كتباً وفي واحدة منها أقسم فيه بأنه لا يفضل أحدهما علي الآخر وانهما سواء عنده في الحنان الأبوي وختم كتابه بقوله هذا حكمي علي جميع رعاياي المخلصين والتنازع بين أبناء السودان جعل الملك صبير احد ملوك الشايقية يستسلم هو وجيشه لجيش الفتح ويظهر رغبة رجاله من الشايقية في الانضمام إلى الجيش الغازي فقبلهم اسماعيل باشا وساروا معه لإخضاع بقية الأراضي السودانية وعند وصول جيش إسماعيل باشا المحتل إلى مدني كان الوزير محمد ود عدلان يجري مفاوضات مع سلطان دار فور (محمد الفضل) ومقدوم كردفان (مسلم) لتوحيد الصف والجهود لمحاربة الجيوش الغازية لكن أنصار إبن عمه (حسن ود رجب) تمكنوا من إغتياله نتيجة للتنازع لكن حسن ود رجب لم يستطع الإستيلاء على السلطة ففر إلى الحبشة مما مكن خصومه من الجناح الآخر بقيادة الأرباب دفع الله الطرف الثالث من النزاع من تولي السلطة فدخلوا في مفاوضات مباشرة مع إسماعيل باشا للتسليم ورحل وفدهم المفاوض برئاسة الأرباب شخصياً لمقابلة إسماعيل باشا خارج عاصمتهم ليوقع على وثيقة التنازل عن جميع سلطانهم لخليفة المسلمين بالقسطنطينة مبايعاً في ١٣ يونيو ١٨٢١م بهذا التنازل أضحت البلاد تحت سيطرة السلطان العثماني وسار السلطان السابق الأرباب دفع الله خلف الجيش الغازي بعد أن عينه إسماعيل باشا شيخا على منطقة سنار لكي يجمع منها الضرائب ويسلمها للإدارة التركية المصرية الجديدة وسمح له بأن تكون له منها نسبة
ورغم أن التنازع أمر صحي و مطلوب في العمل السياسي إلا أن الزمن توقف عند زعامات أكتوبر الذين تنصلوا عن شعاراتهم وإنقلبوا علي مبدأ التداول السلمي للسلطة فلم يفرقهم من كرسي القيادة إلا الموت حتي الترابي مهندس تلك الشعارات مات زعيماً وقائداً رغم تآمر تلامذته عليه
فنافلة القول أن الأحزاب السودانية هي أصل الدكتاتورية والإستبداد ومن أبرز خصائصها الإستبداد بالرأي ومصادرة الآراء وتكميم الأفواه وفرض وجهات النظر بالقوة انهم يفرضون حتي الإستئذان في كل صغيرة وكبيرة كأنما مثلهم الأعلي فرعون صاحب مقولة {ما علمت لكم من إله غيري} ومقولة {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} بل حتى الإعتقادات القلبية تحتاج إلى إستئذان من أولئك الزعماء علي طريقة {آمنتم له قبل أن آذن لكم} أي جبروت هذا ؟ وأي قمع هذا ؟ لدرجة ان يستمر رئيس حزب سياسي أكثر من نصف قرن في منصبه ولا أحد يجرؤ لأن يقول له تنحى مع ذلك تجد جميع أعضاء الحزب يطالبون العسكر بالتنحي وأولهم صاحب الخمسين سنة في سدة الحكم متسلطاً علي رقاب أعضاء حزبه يفصل من يشاء ويرقي من يشاء و ينقل من يشاء (إنه علي ذلك لقدير) لذلك عقب كل ثورة شعبية تضيع الفترة الإنتقالية في كنس آثار النظام البائد فتترسخ في الاذهان مفردات مثل التطهير الوظيفي وتصفية آثار مايو وإزالة التمكين فتقسم فئات الشعب الي ثوار وفلول شرفاء وخونة فيضيع الوقت في صراعات دونكيشوتية فارغة فهذه هي مصيبتنا فالحزب الشيوعي قبل مؤتمره السادس فصل دكتور الشفيع خضر و كل من يمكنهم أن يهددوا زعامة الحرس القديم و من لم يفصلونه إضطروه لتقديم الإستقالة ومع ذلك لا زال صوت الحزب عالياً بالحديث عن الديمقراطية رغم ان تلك المجزرة الحزبية قضت تماماً علي فكرة التداول السلمي للسلطة داخل الحزب و من لا يري ذلك بوضوح أراه قد غمت عليه الرؤيا إذ لا فرق بين زعامة الإمام الراحل الصادق المهدي لحزب الأمة او إستمرار محمد عثمان الميرغني كزعيم لحزبه ما يقارب الثمانون عاماً وزعامة سكرتاريي الحزب الشيوعي الذين لايفرق بينهم وبين منصبهم الرئاسي إلا الموت ولا عن زعامة حزب البعث الذي يستمر زعيمه حتي يلفظ آخر نفس من أنفاسه فازمة السودان الحقيقية تكمن في الممارسة السياسية للأحزاب لدرجة ان عبد الله خليل يضيق صدره بالتنازع داخل حزبه فيسلم السلطة للعسكري عبود دون أن يطرف له جفن في وأد الديمقراطية والشيوعيين يذهبون الي ثكنات العسكر غضباً علي قرار حل حزبهم و طرد نوابهم من البرلمان فيحتموا بالبزه العسكرية وفي الأخير يأتون علي ظهر دبابة ليخربوا الديمقراطية ويجلسوا علي تلها فتكون مايو التي تغني بها كبيرهم محمد وردي وبكلمات شاعر حزبهم محجوب شريف (أنت يا مايو الخلاص ياجداراً من رصاص
يا حبالاً للقصاص
من عدو الشعب في كل مكان
من عدو الشعب في كل زمان) الي ان يصل في قوله (أنت يا مايو بطاقتنا التي ضاعت سنيناً أنت يا مايو ستبقى بين ايدينا وفينا
وسنحميك جهاراً وسنحميك اقتداراً) وهي مايو التي ترنم بها كبيرهم وردي (ياحارسنا وفارسنا يا بيتنا ومدارسنا.. كنا زمن نفتش ليك.. وجيتنا الليلة كايسنا) وسرعان ما يختلفوا مع مايو فتكون يوليو و قائدها الرائد هاشم العطا في مغامرة خاسرة بعد حسمها عاد نجوم الغناء للتغني لمايو ولنميري (في 22 يوليو للشارع شعب وجيش بي تصميم نذود عن مايو وندافع
ويا ريس براك شفتا أعظم وأروع إستفتا ونحن معاك رخا وشدة) ويشعر الإسلاميين بالملل بتطاول أمد الوصول إلى الكرسي وهذا ما كان يشعر به حزب البعث فيتسابق الإثنين نحو الوصول الي السلطة بغير طريق صناديق الاقتراع فتكون ٣٠ يونيو البشير و٢٨ رمضان الكدرو هكذا كل حزب يسلم قيادة وطننا لمن يتوهم أنه يحقق له المصالح من منسوبي المؤسسة العسكرية الذين بعد وصولهم للسلطة و تمكنهم منها تظهر لهم أجندة أخرى لا علاقة لها بالذي وقعوا عليه وأول تلك الأجندة البقاء بالكرسي الي حين الطرد بواسطة ثورة شعبية وبرغم الثورات السودانية التي إنتزعت السلطة من كل الدكتاتوريين إلا أن الصفحة التي يقرأ منها العساكر هي صفحة واحدة هيأتها لهم الأحزاب الذين ايضاً لديهم صفحة واحدة يستمدون منها خططهم وسياساتهم وأفكارهم للوصول إلى السلطة لذلك ينقلب العسكر الذي قلبوا نظام الحكم بغطاء حزبي وسرعان ما ينقلب عليهم الحزب بتأليب الجماهير حين لم يحقق العسكر ما ترنو إليه أنفسهم من مصالح و سيطرة علي الموارد و المواطنين و هكذا العجلة تدور وبين كل إنقلاب وآخر أرتال من الضحايا والقتلي و الجرحي والمنفيين ولا أحد يدري إلى متي سيستمر هذا وهذه الدائرة الجنهمية والأستخفاف بأرواح و موارد و حقوق السودانيين لا تعلم القوة السياسية ليجتنبوه