إنَّنا حين نحاول رصد الآثار السلبية الخطيرة والانحرافات والأمراض الكثيرة التي أصيبت أمتنا بها نتيجة عدم أخذها بمداخل علم الأولويات وعدم عنايتها به نستطيع أنْ نرصد من السلبيات -على عجل- ما يلي:
أولاً: الاستغراق بالجزئيات والتفاصيل، والانشغال عن الكليَّات والعجز عن رد الجزئيات إلى الكليَّات، والفروع إلى الأصول، وفهم العلاقة الدقيقة بينهما.
ثانيًا: التشبُّث بالتقليد والتبعية، واعتبارها مصدر أمن، يحمي من المغامرة لاكتشاف المجهول بالإبداع أو الاجتهاد، ونسبة كثير من الإيجابيات المصطنعة لهذه الحالة، حالة التقليد المرضيَّة، وقديمًا قيل:
يرى الجبناء أنَّ الجبن حزم وتلك خديعة الطبع السقيم
ثالثًا: تقديم النوافل على الفرائض، أو التحسينيات على الحاجيات، أو الحاجيات على الضروريات في مختلف جوانب الحياة؛ لافتقاد المنهجيَّة والتفكير المنهجي العلميّ الرصين المنضبط.
رابعًا: العزوف عن الأخذ بالأسباب، والميل إلى تجاوزها لأدنى سبب توكلاً أو تواكلاً أو اعتمادًا على مُفترض أو متوهم مع تجاهل أن الارتباط بين الأسباب والمسببات ارتباط سنُن: ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب:62).
خامسًا: عدم التفريق بين الحق والرجال، والركون إلى معرفة الحق بالرجال بدلاً من معرفة الرجال باتباع الحق، وهذا قد أدى إلى نوع من الصنمية، والعمل على إضفاء البعد الشخصي على الفكرة والمبدأ، فكثيرًا ما نتعلَّق بمبدأ تافه لمجرد محبتنا للقائل به، أو نرفض مبدأ قويمًا لمجرد رفضنا للمنادي به أو متبنِّيه.
سادسًا: انحراف في خط التكفير نجم من انحراف في المنهجيَّة، وترتَّب عليه اضطراب في المنطق، وانحراف في أساليب البحث، سواء في تراثنا أو تراث غيرنا وتجاهل لمناهج الحوار والاستدلال والاستنباط.
سابعًا: خلط شديد بين ما هو ثابت وما هو متغيِّر، فكثير من المتغيرات حولها طول الأمد والذيوع وكثرة التعاطي والمتعاطين إلى ثوابت، وكثير من الثوابت حُوِّلت إلى متغيرات بدوافع وأسباب مماثلة.
وكثيرًا ما أدى ذلك إلى خلط في قضايا المقبول والمردود، والبدعة والسنَّة، وربما الحلال والحرام، والفردي والجماعي.
ثامنًا: الرغبة عن التأصيل الدقيق، والتمحيص العميق، والميل إلى الارتجال بدعاوى مختلفة، منها البحث عن البساطة، أو الرغبة في تجاوز التكلف.
تاسعًا: التسوية بين التخطيط الدقيق للأمور وبين الارتجال، مرة بحجة التساوي في النتائج، أو تقارب تلك النتائج.
عاشرًا: مَنْ أصيب بكل ما تقدم ينزع دائمًا إلى تبرئة الذات واتهام الآخرين، للعجز عن مراقبة النفس ومحاسبتها، فإنَّ هول هذه الإصابات يجعل مجرد استحضارها أمرًا صعبًا على النفس فتسارع النفس إلى تزكية ذاتها، وإلقاء التهمة على الآخر، لكنها في الوقت نفسه تعاقب نفسها بفقدان الثقة بالنفس إضافة إلى فقدانها بالآخرين.
حادي عشر: حين لا تُستحضر الأولويات، ينشغل الناس بالشعارات والتهاويل ويتجاوزون المضامين، ويستعجلون النتائج، ويضطربون بين اليأس والقنوط والطمع المبالغ فيه، والرجاء القائم على غير أساس والإحباط أو الغرور.
ثاني عشر: تجاوز الأولويات يؤدي إلى الفصل بين العلم والعمل، والفكر والنظر والعمل كذلك، بل ربما يؤدي الجهل بالأولويات إلى أنْ ينشب صراع بين أهل العلم والعمل أو بين أهل الفكر والعمل لعدم تحديد العلاقات بشكل مناسب.
ثالث عشر: إدراك الأولويات يعتبر درعًا وحماية من الكسل أو الفتور النفسي أو العقلي، وتجاوز الأولويات مدعاة إلى الوقوع في ذلك وتهيئة أسبابه.
رابع عشر: تجاوز علم الأولويات يؤدي إلى هيمنة كثير من الأوهام على العقل الإنسانيّ، ومنها أوهام التعارض بين النقل والعقل، وبين النقل والعلم فيضطرب الإنسان اضطرابًا شديدًا، فمرةَّ يندفع بدافع الخوف لحصر المعرفة في الوحي، وأخرى يندفع بمثل ذلك لحصر المعرفة بالعلم أو العقل، وكل ذلك إنما ينجم عن فقدان الأولويات، وتداخل المراتب، والعجز عن التفكير الكلي وتنظيم الأمور داخله.
خامس عشر: حين يتراجع علم الأولويات في أمة تسود حياتها الاتجاهات الشكلية والرسوم وعمليات الفصام بين النظرية والتطبيق، وقد تعمد إلى تعاطي ما يُعرف (بالحيل والمخارج) اغترارًا منها بالصور والأشكال.
سادس عشر: حين يضطرب علم الأولويات في أمة يسود حياتها التناقض أفرادًا وجماعات، فقد تجد الإنسان يحرص الحرص كلّه على أداء الصلاة جماعة، ولكنه لا يتردد في المشي بين الناس بالنميمة أو اغتياب الناس وتفريق الجماعات، وربما التجسس على هذا وتتبع عورة ذاك أو غير ذلك من المفاسد.
سابع عشر: تجاوز الأولويات قد يؤدي إلى ممارسات مخطئة كثيرة، تنطلق من اضطراب المفاهيم، فقد يختلط على الإنسان مفهوم التهور بمفهوم الشجاعة، ومفهوم البخل بمفهوم الاقتصاد، ومفهوم الكرم بمفهوم الإسراف، وتنعدم المساحات الفاصلة بين هذه المفاهيم وتضمحل.
ثامن عشر: مَنْ يتجاوز الأولويات قد يتجاوز الواقع كلّه، إذا كان مرًّا ويهرب من مضايقاته إلى الخيال؛ ليرسم نفسه من خلال الخيال والصورة المرغوبة أو المناسبة، وقد يهرب إلى الماضي ويتجاوز الحاضر والمستقبل والواقع للغرض نفسه.
تاسع عشر: مَنْ يتجاوز الأولويات يغلب عليه الاهتمام باللفظ، وتجاوز المعنى، وعدم تحديد المفاهيم، وعدم العناية بالمصطلحات، وربما يتجاوز ذلك كلّه إلى نوع من الوجدانيات والتأملات، يُغيِّب بها عقله ونفسه؛ لكيلا يدرك حقيقة ما عليه أنْ يفعل.
عشرون: مَنْ يتجاوز الأولويات كثيرًا ما يفقد الموازين الدقيقة لما يأخذ ولما يدع ويعمد إلى التعميم، وإيقاف المعايير، والانحياز دون مبرر إلى الذات أو إلى الفئة أو الحزب أو سواها.
إحدى وعشرون: مَنْ يتجاوز الأولويات يصير إلى هيمنة التفكير الأحادي، واللجوء إلى الأحكام القيميَّة، والتسرُّع في إصدارها، وقد يؤدي ذلك به إلى نفي وجود الآخر حكمًا.
اثنان وعشرون: كذلك كثيرًا ما يندفع متجاوز الأولويات نحو اللجوء إلى التأويل دائمًا، خاطئًا أو صحيحًا لدعم سلوك أو ظاهرة، أو المحافظة على وضع قائم، أو دعم نزعة دفاعية أو نحوها.
ثلاثة وعشرون: تجاوز الأولويات يؤدي إلى فقدان مداخل من أهم مداخل النقد والتصحيح، الذي يمكن أنْ ينطلق من خلال إدراك الأولويات ودقة ترتيبها وتنظيمها إلى غير ذلك من انحرافات وسلبيات يمكن رصدها كظواهر وأعراض تنجم عن حالة تجاوز أو فقدان الاهتمام بعلم الأولويات.
أربعة وعشرون: إنَّ كثيرًا من المشكلات وأسباب الخلاف التي تقع بين حركة الإصلاح، وتيَّارات التغيير الاجتماعي تنجم عن الاضطراب في تحديد الأولويات، والاختلاف عليها، ومعرفة علم الأولويات قد يساعد على حسم كثير من الخلاف الدائر بين حركات الإصلاح، ومثل ذلك يمكن أنْ يقال عن الخلاف بين هذه الأطراف يرجع – عند التحقيق – إلى الاختلاف حول الأولويات وطرق تحديدها، والمرجع في تحديدها.
وهذا الذي ذكرناه يؤكد ضرورة بناء هذا العلم، وتربية أجيالها على قواعده، فذلك أجدى كثيرًا عليهم من دراسات اختلاف الفقهاء، والفقه المقارن وكيفية الانتصار للمذاهب والطوائف.