عبدالحفيظ مريود يكتب: وحميدتى لا يشعر بالقلق

عبدالحفيظ مريود

بدون زعل

وحميدتى لا يشعر بالقلق

لم يؤرخ أحد، بعد، لأول امرأة سودانية امتهنت البغاء. ولو فعل، لوجد أن لها أسبابا وجيهة. شعرت زينب بت بيلا أن العالم يطبق أبوابه فى وجهها. المشايخ جميعا أفتوا بأن أموالها التى راكمتها، على مر السنين، لا يجوز أن تسافر بها إلى الحج. فالله لا يقبل أن تحج إلى بيته بأموال حرام…لكنها تنوى أن تحج. أن تطوف غارقة فى دموع الرجاء، ملبية بصوت مخنوق بالنشيج. هذا حقها. وحين تضافرت فتاوى المشايخ، سلبا، قصدت سيدي الشريف الهندى، فى ضاحية برى. والشريف الهندى يفتى بغير كتب الفقه. يقول لها ” إذهبى وحجى بأموالك…سيقبل الله حجتك…وبعدين لو ما دخلتى الجنة، بشيلك فى ……دا، وأدخل بيك”.
شايف كيف؟
الكتاب الذى يفتى الشريف الهندى وفقا له، غير مبذول للجميع. والفقهاء عوام فى حضرة العارفين. والناس أعداء ما جهلوا، كما قال الإمام على بن أبى طالب عليه السلام. لذلك لا ينجزون تغييرات جوهرية بسهولة. المألوف حبيب إلى القلب..وهو ما يجعل أدروب هو هو، منذ أن خلق الله الأرض. وقد إجتهد محمد طاهر إيلا فى بناء القرى النموذجية فى ولاية البحر الأحمر، وضع قاعدة ” التعليم مقابل الغذاء”، لكن أدروب ولوف، كما يقول المثل. يلتصق بحياته التقليدية الرثة، كما لو أنه فى سويسرا. ثم ما يلبث أن يستفيق على واقع قد تجاوزه، فيهدد، يبرطع، يقطع الطريق من البحر وإليه، وينجز تفرقته الداخلية مصطرعا حول من يحق له أن يمثل الشرق.
شايف كيف؟
يوم أن غنينا للإستقلال لم نكن نعرف صيغة أخرى للأشياء. للدولة. فقد علمنا الإنجليز – هدانا الله وإياهم – أن الأشياء هى الأشياء. فصارت الفتاوى تصدر ، جميعا، وبلا استثناء، من كتاب الإنجليز ذاك. لا يحيد عنه إلا هالك…يجب أن يظل مشروع الجزيرة فى مكانه. النقل النهرى، الميكانيكى، السكة الحديد، الخدمة المدنية، الجيش، جامعة الخرطوم..يجب أن تمضى الأشياء كما قال الكتاب الإنجليزى..بمثلما تمضى ” الرياح إلى حتفها” ، كما قال عبد الله شابو، دام ظله العالي.
شايف كيف؟
ولما مزقت حكومة الإنقاذ بضع صفحات من كتاب الانجليز، كفرت بأنعم الدولة الحديثة..ولو نظر منصف حصيف لوجد أن ما فعلته، خلال ثلاثين عاما، كان نقلة فى الكثير ، بدء بالتعليم العالى، الذى كان مغلقا، محصورا، وعصيا على الكثيرين. هل فى كلامى هذا ” فلولية” بدرجة ما؟ حسنا..
يطفف الكائلون خشية اتهامهم بالفلولية..فلتكن، إذن.
شايف كيف؟
هل خرج الشباب لإعادة بناء السودان على أسس جديدة؟ أم على أساس كتاب الإنجليز؟ هذا هو سؤالى.
وسؤالى غلط..لأنى نمط، كما يقول محمود درويش.
كتاب الإنجليز هو ما اصطلح على تسميته ب ” دولة ٥٦”..حيث الأشياء واضحة. هناك أفندية ظراف يقودون الدفة. يتدرجون فى الوظائف، يقلدون من علمهم الجلوس على المكاتب. وثمة جيش هناك – فى الثكنات- يطلبه الأفندية ليخوض حروبا لا يعرف أسبابها. فالفهم والتقدير ليست من وظائف العسكرى، أو هكذا قال كتاب الإنجليز. لا بد من فصل الإختصاصات وفصل السلطات، وترك ما للساسة لهم…هل يستطيع أحد أن يفهم شيئا ، على النحو الصحيح، كما يفعل الغردونى الأنيق الأملس، الذى يضع نظارات للقراءة؟ بتلعبوا إنتو وللا شنو؟
شايف كيف؟
لكن أقدارا توجه معاول ليست فى الحسبان، للإنقضاض على دولة ٥٦، أو كتاب الإنجليز. القراءات تقول إنه لا يوجد سبب واحد يجعل حميدتى يقترب من المايك، أو تتسابق الكاميرات لتصوره، أو يركب سيارة مظللة ويسكن فى سكن فخم تم تصميمه ليلائم غردونيا ممنهجا، يجيد الإنجليزية.
لكن الترتيبات جعلت ذلك ممكنا. ولو راجع قادة الإسلاميين تفاصيل ما جرى، لما تخيل أحدهم أن ذلك سيحدث، وهم عنه غافلون.. بل كان المؤكد أن ” المغفل” هذا، سينجز مهمته كما رسمناها له، وسنتخلص منه متى شئنا…
الآن…الجنجويد يتحل.
حسنا…
المقصود بالجنجويد فى الشعار الفاره الرومانسى هم قوات الدعم السريع. تتحدث الأرقام عن ما يقارب المائة ألف مقاتل..يجب حلها ودمجها فى الجيش السودانى. هكذا؟ ليس تماما..إذا رأت ” القيادة السياسية” ، حين يقدر لها الشعب/الشارع أن تحكم، أن تدمج ” الشرفاء” منهم فى الجيش الوطنى، بعد هيكلته، وإعادة بنائه على أسس وعقيدة قتالية جديدة، ستفعل..ولأنه لا يوجد ” شرفاء” جنجويد/ دعم سريع، فالغالب أن الشعب/الشارع – بعد أن يقدم قائدهم وأشقاءه لمحاكمات عادلة، ويشنقهم – سيجعل قوات عبد الواحد نور وعبد العزيز الحلو تنظر فى أمرهم.
لذلك لا يشعر حميدتى بالقلق.
شايف كيف؟
التغيير يأمل إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، قبل، وفى الحادى من يناير ٥٦م…لصالح كتاب الإنجليز…لذلك يدخلون السفارات خفية، يقابلون خواجات لطيفين فى بعض الفنادق، تنشر الأسافير فرحا خجولا حين تقول سفارة ما، أو وزارة خارجية ” لابد من تسليم السلطة للمدنيين”… وهو أمر جيد، لكن أى مدنيين؟ وأى طريقة؟..يهذى أكاديميون ومثقفون وسياسيون ب ” هيكل الدولة”. جهاز الدولة..أليس هو شيئا يفترض فيه أن يلبى أشواقنا وتطلعاتنا، جميعا، حتى لو كان أغبش لا يطابق مواصفات ومقاييس الغردونيين والناظرين لأوربا؟ ألم تفعل الصين ذلك؟ كوبا، إيران وغيرها؟ أيلزم أن يكون صحيحا بشروط البخاري ومسلم، حتى ولو كان يناقض حاجاتنا المحلية المعقدة؟ هل يفترض فى الملابس أن تلائم طولى وحجمى، أن تكون مريحة وعملية، مناسبة للجو ؟ أم أن على أن أرتدى ما تم تفصيله وفقا للكتاب، بغض النظر عن إحتياجى فى السياق الإجمالى؟
شايف كيف؟
والشريف الهندى، قدس الله سره، يقرأ من كتاب ليس للفقهاء العوام. ما لا يقوم الواجب إلا به، فهو واجب..حسنا. يستدرج المنهج الفقيه إلى مقتله. يظن أنه يتحدث بلسان الحقيقة المطلقة. لأنه وثق فى المنهج، دون أن ينتبه إلى شراك المنهج الخفية..فالحقيقة المطلقة لا يسعها المنهج. تستطيع زينب بنت بيلا أن تحج..وأن توقف مبانى كثيرة فى الخرطوم شرق، وغيرها، بما فيها مبنى مستشفى الزيتونة بشارع السيد عبد الرحمن..
يغفل الأرضيون عن المعنى، المؤلهون للمنهج، عن السؤال : ما الغاية من المنهج؟
ثم، صل اللهم على الدليل إليك فى الليل الأليل، الثابت القدم على زحاليفها فى الزمن الأول..صلاة تقضى بها جميع حوائجنا.

* ملحوظة:
الصورة للمثل الايرلندى كيليان مورفى، فى دور توماس شيلبى، من مسلسل ” بيكى بيلايندرز “، الذى يحكى كيف يخرج الإنجليز من قواعد الكتاب حين يكون ذلك ضروريا..

Comments (0)
Add Comment