هدوء حذر في ولاية النيل الأزرق ومخاوف من تجدد النزاع القبلي

الصدمة والشرخ الاجتماعي الذي خلفته الأحداث الدامية خلال الأيام الماضية، وعلى الرغم من انتشار الجيش ما زالت ولاية النيل الأزرق جنوب شرق السودان بالقرب من الحدود مع إثيوبيا، تعيش هدوءاً حذراً تتخلله عمليات ترصد ومطاردات من طرفي النزاع بصورة قد تنذر بتجدد الاشتباكات في أي لحظة، وذلك في أعقاب يومين من الانفلات الأمني والاقتتال القبلي بين قبائل “الفونج” وقبيلة “الهوسا” في عدد من مناطق ومدن الإقليم خلفت حوالى 65 قتيلاً و 192 جريحاً كحصيلة أولية وفق وزارة الصحة.
أوضاع مأساوية
وما زالت الأوضاع الأمنية في الإقليم، المتمتع بالحكم الذاتي تحت إدارة الحركة الشعبية لتحرير السودان/شمال برئاسة مالك عقار عضو مجلس السيادة الانتقالي، هشة بعد اندلاع الاشتباكات على مدى أيام إضافة إلى تدمير وحرق متاجر لمنسوبي قبيلة “الهوسا”.
وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع لفيديوهات وصور تعكس عمليات الطرد الجماعي لأفراد وجماعات من قبائل “الهوسا” وتظهر أعمال العنف التي لازمت تلك الأحداث.
وأعلنت لجنة الأمن بالإقليم حالة الطوارئ ومنع التجوال والتجمعات غير الضرورية في المدن الرئيسة، حيث تركز الاقتتال القبلي في مناطق الروصيرص وقنيص وقيسان وبكوري وأمورا وأم درفا ووصل حتى العاصمة الدمازين.
في السياق، وصف أمير عيسى زايد، المدير التنفيذي لمحلية قيسان في الإقليم، مهد شرارة النزاع الأولى لـ “اندبندنت عربية”، الوضع بـ “المأساوي حيث توقفت كل أشكال الحياة، والتوتر هو السمة الغالبة فالكل متوجس وقلق على الرغم من انتشار القوات المسلحة وفرض سيطرتها على الأرض”.
وكشف زايد أن “بداية اشتعال فتيل الأحداث كان بمقتل أحد المنتسبين لقبائل الفونج (البرتا) في شرق محلية قيسان، لكن وقبل أن تتم التسوية أعلن عن مقتل اثنين آخرين منهم بمنطقة أندرفا بسلاح ناري، وكان الحادث الثاني بمثابة الشرارة الفعلية للأحداث إذ جاء رد الفعل عنيفاً وسريعاً من طرف قبائل الفونج في منطقة قنيص ثم انتقلت الاشتباكات إلى قيسان وتم حرق عدة محال تجارية تخص قبائل الهوسا”. وأسفرت اشتباكات قيسان وحدها عن سقوط 18 قتيلاً وعدد كبير من الجرحى، ثم انتقل النزاع إلى مدينة الروصيرص ثم أخيراً العاصمة الدمازين.
وأشار إلى أنه بعدما بسط الجيش سيطرته تم إرسال عدد من أفراد قبيلة “الهوسا” إلى المنطقة العسكرية لتوفير الحماية لهم إلى حين تهدئة الأوضاع وتسويتها، لكنه لم يستبعد عودة الأوضاع للانفجار في أي لحظة نظراً إلى درجة الاحتقان الكبيرة بين الطرفين خاصة بعد أن ظهر امتلاك “الهوسا” لعتاد وأسلحة كبيرة.
شرارة البداية
على الصعيد نفسه، روى الشاهد المنصور محمد التوم، من الدمازين، بعض تفاصيل البدايات الأولى التي تسببت انفجار الأحداث الدامية، أن الشرارة كانت بنشوب خلاف حول أرض زراعية أقدم فيها رجل من قبيلة “الهوسا” على قتل آخر من قبائل “الفونج” تلاه حادثة أخرى وانتقلت بعد ذلك الأحداث إلى محلية الروصيرص.
ويستطرد التوم “عقب حادث القتل الأخير هاجمت مجموعات قبائل الفونج (مجتمعة) قبيلة الهوسا في منطقة قنيص كرد على مقتل أفراد منهم، ما اضطر قبائل الهوسا إلى اللجوء إلى معسكرات الجيش والقوات المشتركة طلباً للحماية والأمن”.
جهود لوقف العنف
من جانبه، كشف المك الفاتح عدلان، ناظر عموم قبائل ولاية النيل الأزرق، لـ “اندبندنت عربية”، عن مساع حثيثة تقودها قيادات قبلية تستهدف وقف أعمال العنف كمرحلة أولى، تمهيداً لعقد جلسات بين قيادات الإدارات الأهلية من الطرفين لتهيئة عقد اتفاق صلح يعيد اللحمة إلى النسيج الاجتماعي بالإقليم، بعدما أصيب بالكثير من الشروخ خاصة وأن هناك تاريخاً من التمازج والتصاهر بين الطرفين.
وتحدث عن اجتماع تم مع لجنة من قبيلة “الهوسا” رافضة للعنف الجاري، وكشف عن أن هناك فئة معينة من تلك القبيلة هي التي تتبنى العنف، خاصة بعد ما ظهر خلال الاشتباكات وجود أسلحة حرب كبيرة لدى القبيلة، مشيراً إلى أن قبائل “الفونج” كانوا قد أسروا حوالى 500 من رجال “الهوسا” وألفي امرأة وبعدها تم تسليمهم إلى الشرطة من دون المساس بهم بأي أذى أو اعتداء ما يؤكد على توفر حسن النوايا، كما تكفلت القوات النظامية بحماية الحافلات التي تحمل أفراد “الهوسا” في طريقهم لمغادرة المنطقة بعد المضايقات التي كانوا يتعرضون لها.
المسكوت عنه
وفي السياق، أرجع المحلل الأمني اللواء أمين إسماعيل مجذوب، انفجار الصراع الدامي في النيل الأزرق إلى بروز ما كان مسكوتاً عنه لوقت طويل في السابق، حول وجود قبائل أصيلة وأخرى وافدة جاءت مع الزراعة والمشاريع لتتشارك الموارد مع أهلها، وهنا بدأ الخلاف يبرز إلى السطح ويتعمق وأنبت الهواجس الموروثة ما أدى إلى انهدام الثقة والروابط بين الأطراف المختلفة.
وأرجع مجذوب السبب إلى دخول الجهوية والقبلية إلى معترك الصراع السياسي، خاصة في ظل تكرر الحديث عن وجود قبائل محددة مطلوب خروجها من هذه المنطقة أو تلك، على الرغم من الوجود التاريخي لها ومساهماتها التنموية والاجتماعية حيث باتت جزءاً أصيلاً من النسيج الاجتماعي في المنطقة.
ظلال السياسة
ووصف مجذوب ما يدور في النيل الأزرق من اقتتال قبلي بـ “امتداد وظل للصراع السياسي بالبلاد”، حيث “درج السياسيون السودانيون على الاعتصام بالقبلية والجهوية لإسناد الصراع السياسي بالمركز، وهو منحى غاية الخطورة مثلما حدث في دارفور والشرق، فأصبحنا نسمع بتصنيف القبائل سياسياً، بعضها مع التمرد وأخرى مع النظام السابق إلى آخر المنظومة السياسية”.
وأضاف “هذه الأحداث تؤكد فعلاً أن السودان بات على مفترق الطرق، وعبر المجتمع الدولي في حديثه المتكرر عن مخاوفه من تفككه وانهياره بسبب ما قد تقوده إليه الأوضاع الراهنة”، مردفاً “وعلى الرغم من كل ذلك يريد الكثير من السياسيين العودة بالبلاد إلى عصر القبلية والجهوية كأيام الحكم العثماني عندما كانت بنية الدولة تقوم على السلاطين والعشائر والممالك القبلية”.
وناشد مجذوب السلطات المركزية سرعة التدخل لوقف الاشتباكات القبلية وبذل كل الجهود لإصلاح النسيج المجتمعي وإعادة الأمور إلى نصابها، مطالباً كذلك القيادات الأهلية بالاحتكام إلى صوت العقل والعودة عن كل الممارسات الخاطئة للوصول إلى السلطة السياسية والحصول على أكبر قدر من المكاسب بضغط وقوة القبيلة.
وكان الفريق أحمد العمدة بادي، حاكم إقليم النيل الأزرق، قد تفقد برفقة لجنة أمن الإقليم مواقع الأحداث بمدينة الروصيرص ووقف على الآثار التي خلفتها.
وشدد بادي على أن حكومته “ستتخذ كافة الإجراءات القانونية ضد مثيري الفتن وستضرب بيد من حديد كل المتفلتين كما أنها جاهزة لحل كافة المشاكل بالطرق الودية”.
إجراءات قانونية
على المستوى المركزي، قررت اللجنة الفنية لمجلس الأمن والدفاع برئاسة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، التأمين على الإجراءات التي اتخذتها لجنة أمن الإقليم لمنع تفاقم الصراع بين مكونات المنطقة، بتعزيز القوات الأمنية الموجودة بالمنطقة والاستمرار في التعامل الحازم والفوري مع كل حالات التلفت والاعتداءات على الأفراد والممتلكات الخاصة والعامة، كما وجه النائب العام بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق تمهيداً للمحاسبة، واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضد مثيري الفتنة والمحرضين على أعمال العنف.
وشكلت وزارة الصحة الاتحادية، فريقاً للاستجابة السريعة وأعلنت حالة استنفار وغرفة طوارئ تعمل على مدار اليوم بالتنسيق مع رئاسة مجلس الوزراء، ومنظمة الصحة العالمية وأطباء بلا حدود البلجيكية والفرنسية واللجنة الدولية للصليب الأحمر، عبر الإمدادات الطبية والشركاء، كما تم استنفار الكوادر الطبية العاملة بالولاية للتوجه إلى مستشفى الدمازين.
من جانبها دانت الجبهة الثورية السودانية التي تضم مجموعة من الحركات الموقعة على السلام، أحداث العنف والاقتتال الذي وقع بين بعض مكونات إقليم النيل الأزرق.
وأهابت الجبهة بحكومة الإقليم وحاكمه تفعيل سلطة القانون وفرض هيبة الدولة وحماية المواطنين، وناشدت رجال الإدارة الأهلية التدخل لوقف الاقتتال وتسوية النزاعات والخلافات بالحكمة بعيداً عن العنف.
قلق أممي
من جهته، أعرب رئيس البعثة المتكاملة لدعم الانتقال في السودان (يونيتامس) فولكر بيرتس، عن قلقه الشديد إزاء الأحداث التي شهدها إقليم النيل الأزرق، واصفاً العنف بين المجتمعات والخسائر في الأرواح بالأمر المحزن والمقلق للغاية.
وحض بيرتس، في تغريدة على حسابه في “تويتر”، المجتمعات المحلية وقياداتها بالإقليم على ضبط النفس والامتناع عن الانتقام، والعمل مع السلطات والإدارة الأهلية لاتخاذ خطوات ملموسة نحو التعايش السلمي.
ويعتبر باحثون في تاريخ السودان قبيلة “الهوسا” ضمن مكونات النيل الأزرق تعمل في مجال الزراعة مما عزز نفوذها وتأثيرها في الحركة الاجتماعية والاقتصادية هناك، غير أن حلمهم التاريخي تجسد في الحصول على نظارة قبلية الأمر الذي تتحفظ عليه قبائل النيل الأزرق التي تعتبر نفسها قبائل مملكة “الفونج” الأصيلة بالمنطقة مثل البرتا والقمز والبرون والوطاويط والأنقسنا.
جريدة اندبندنت البريطانية

Comments (0)
Add Comment