في ظلّ ما يشهده السودان من أزمات اقتصادية وتفاقم سوء الوضع المعيشي، ينتظر مواطنوه بكثير من الأمل في أن الفترة الانتقالية ومن ثم التحول الديمقراطي المرتقب سيشجعان المجتمع الدولي للعمل على إزالة عثرة السودان الاقتصادية. بل إن كثيرين ذهبوا إلى أبعد من ذلك بتوقع دمج السودان في الاقتصاد العالمي، بعد رفع اسمه من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب بفتح الباب واسعاً أمام الاستثمارات الأجنبية.
وخطا السودان خلال حكومة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك خطوات نحو ترتيب الأوضاع الاقتصادية والنظم المالية بما يؤهله للمضي في هذا الطريق، ولكن لم تنجح الخطط السريعة في حل المشكلات المالية، على الرغم من تحريرها من هيمنة نظام اقتصادي تسبب في تردي الأوضاع في ظل النظام السابق. ثم جاءت الإجراءات التي فرضها الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، لتقف ما بين هذه الخطط، وبين يد المجتمع الدولي المتشككة في وصول المساعدات إلى هدفها. ومع شح المساعدات وعدم الإيفاء بمعظمها، فإن ما وصل منها حامت حولها شبهات بتوجيهها لمنظمات خاصة، وأصبحت مادة أخرى للصراع بين السياسيين والناشطين.
استمرار الأزمة
على مدى 4 أعوام عُقدت مؤتمرات “مجموعة أصدقاء السودان” التي تضم مجموعة من دول ومنظمات ملتزمة بالعمل على دعم الحكومة الانتقالية، وهي التي ركزت منذ تأسيسها في عام 2018 كمجموعة غير رسمية لتنسيق عملها تجاه السودان، على تغطية عشرات المشاريع الخدمية وتمويل موازنة عام 2020.
وأعقب مؤتمر باريس المنعقد في مايو (أيار) 2021 الإعلان عن إعفاء 23.5 مليار دولار من ديون السودان، البالغة حوالى 60 ملياراً، من الدول داخل مجموعة نادي باريس لاستحقاق السودان بالاستفادة من مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون “هيبك” عقب استيفاء شروطها.
ولكن السودان تمكن من سداد متأخراته لدى البنك الدولي عن طريق قرض تجسيري من الولايات المتحدة قيمته 1.5 مليار دولار، خلال عام 2021 وهو ما أتاح له فرص الحصول على تمويل ومساعدات جديدة لأول مرة منذ عقود، لكن البنك الدولي بدوره أعلن وقف المساعدات التي كانت مخصصة له. وتبعته المنظمات ومؤسسات التمويل الدولية الأخرى والمجتمع الدولي الذي رهن عودة هذه المنح والفوائد بتشكيل حكومة مدنية في أسرع وقت ممكن.
إضافة إلى هذه التحولات التي فاقمت من استمرار الأزمة الاقتصادية، فإن التجاذبات السياسية وعدم التوافق السياسي بين المكونين العسكري والمدني من جهة، وبين القوى السياسية المدنية من جهة أخرى عملت على زعزعة أواصر العمل السياسي في السودان.
العودة إلى العزلة
يقول الكاتب الصحفي محمد مهدي مصطفى “بعد انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018 التي أطاحت بحكم الرئيس السابق عمر البشير، بدأ السودان العودة تدريجياً إلى محيطه الإقليمي والدولي، وقد بدأت معظم الدول الغربية محاولات دعم الاقتصاد السوداني بتخفيف ديونه الخارجية، فعُقدت مؤتمرات عدة تعهد خلالها المانحون بتخفيف الديون، وبالفعل أعفت معظم الدول ديونها عن السودان”.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف مصطفى “ذكر وزير الخارجية الفرنسي السابق جان إيف لودريان وقتها تقديم مساعدات قدرها 60 مليون يورو للسلطات الانتقالية في السودان، منها 15 مليون يورو مساعدات عاجلة للانتقال بالسودان وانتفاضته السلمية، ومساعدة السودان على إعادة بناء العلاقات مع مؤسسات الإقراض الدولية وتسوية ديونه الخارجية”.
ويتابع “بالفعل أسهمت هذه المساعدات في وضع اللبنات الجوهرية لتعافي الاقتصاد بإشراك البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وبموجبها حصلت الخرطوم على استثمارات وإعفاءات وقروض جديدة أسهمت بدورها في توطيد العلاقات بين السودان والأسرة الدولية”.
ويوضح الكاتب الصحفي “وضعت تلك المساعدات وإعفاء بعض الديون حكومة عبدالله حمدوك على الطريق الصحيح، ولكنها توقفت بعد أن قطع الفريق عبد الفتاح البرهان الطريق أمام التحول الديمقراطي بقرارات 25 أكتوبر، بإقحام الجيش في العملية السياسية واستيلائه على الحكم، حينها أعلنت الخارجية الأميركية، تجميد واشنطن لمساعدات بقيمة 700 مليون دولار المقدمة للدعم الطارئ للاقتصاد السوداني، وكذلك فرنسا والنرويج بقيمة 13.74 مليون دولار أميركي”.
ويضيف “وهذا مادفع أيضاً صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي عقب الانقلاب إلى إيقاف برنامج دعم الأسر (ثمرات) والذي كان يهدف إلى تقديم مساعدات مالية لـ80 في المئة من فقراء السودان، بواقع 500 جنيه سوداني للفرد شهرياً على مدى عام، وفق البنك الدولي، لتخفيف الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها البلاد. كما جُمد البرنامج في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، إضافةً إلى المعاملات البنكية الغربية مع السودان، وهو ما أرجع السودان إلى مربع العزلة الدولية مرة أخرى”.
تسوية “المدمرة كول”
في المقابل، يرى فائز السليك المستشار الإعلامي السابق لرئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، أن “التعامل المالي للحكومة المدنية السابقة مع المؤسسات المالية والمجتمع الدولي لم يكن سراً مخفياً، بل كان معروفاً ومعلناً خلال كل الخطوات. وثار لغط حول التسوية التي توصلت لها الحكومة حول قضية تفجير “المدمرة كول” بدفع مبلغ 330 مليون دولار كتعويض لضحايا التفجير الذي وقع خلال حكم نظام البشير”.
ويشير “للمفارقة الذين انتقدوا دفع ذلك المبلغ لم يكونوا على علم بالمحاولات السابقة التي بدأها القائم بالأعمال السوداني في واشنطن معاوية عثمان خالد، كما لا يعلمون طريقة التقاضي في المحاكم الأميركية التي حكمت ضد السودان بأضعاف المبلغ عشرات المرات لرفض الحكومة السابقة المثول أمامها”.
ويتابع السليك أن “القضية أثيرت لعدم تمتع السودان بالحصانة السيادية لوجوده في قائمة الدول الراعية للارهاب، إلا أن دفع التسوية أدى إلى رفع اسمه من القائمة، واشترطت الحكومة صدور قرار أميركي باستعادة الحصانة السيادية”.
ويوضح أن “هذه التسوية فتحت الباب واسعاً لاعفاء ديون السودان، وساعدت واشنطن نفسها بدفع قرض تجسيري بمبلغ 1.5 مليار دولار، للبنك الدولي ليفتح الباب أمام تلقي المعونات والمنح. ثم قررت الولايات المتحدة الأميركية تقديم مساعدات مالية بقيمة مليار ومائة مليون دولار، منها 931 مليون دولار مساعدات مالية مباشرة، على أن تذهب 700 مليون دولار إلى برنامج الدعم المباشر للأسر الفقيرة (ثمرات)، إضافة الى مبلغ 111 مليون دولار للمساعدة في إعادة هيكلة مديونات السودان، ومبلغ 120 مليون دولار، تُدفع لصندوق النقد الدولي، ومبلغ 150 مليون دولار تُدفع كتعويضات للمواطنين الأفارقة المتضررين من أحداث تفجيرات سفارتي واشنطن في نيروبي، ودار السلام”.
الحاجة لبيئة جاذبة
يوضح المستشار الإعلامي السابق أن “هذه المساعدات المالية يمكن أن تعيدنا إلى خطة مارشال التي قدمتها الولايات المتحدة إلى أوروبا لمساعدة القارة في إعادة تأهيل ما دمرته الحرب العالمية الثانية ومواجهة الكساد الاقتصادي، لتطلق أوروبا عمليتها الانتاجية وتسهيل التجارة بين دولها غير الشيوعية، بفضل تلك المساعدات وهو ما نحتاجه اليوم في السودان بعد أن أصبح حال الاقتصاد السوداني كحال مريض في غرفة الانعاش يحتاج إلى عناية عاجلة وتقديم دم لتضخ في أوردته”.
أما في ما يتعلق بوقف برنامج “ثمرات”، يقول السليك “نتيجة لوقف المبلغ المخصص لبرنامج “ثمرات” ضمن المنحة التي كانت مخصصة للبنى التحتية والصحة والتعليم من البنك الدولي، فغالباً ما يفقد السودان المبلغ المجمد من قِبل الولايات المتحدة مع نهاية العام الجاري مثلما سيحول البنك الدولي مبلغ 800 مليون دولار من منحة للسودان لصالح دول أخرى”.
وعما أثير حول برنامج الدعم المالي الدولي يشدد على أنه “لا يوجد أي تأثير سلبي لهذا الدعم، والذين يرددون مثل هذه الاتهامات إما من أيديولوجيا اليسار الذين يرفضون التعاون مع المؤسسات المالية العالمية، ويرون ضرورة الاعتماد على الإنتاج، أو مغيبون”. ويستدرك السليك “نعم الاعتماد على الذات أولوية، لكننا في وضع لا يمكننا حتى من استثمار مواردنا التي تحتاج إلى تعاون إقليمي ودولي، واستمرار السودان في قائمة الإرهاب يحرمنا حتى من الشراكات والاستثمارات بما فيها استثمارات الدول العربية الشقيقة. والاستثمارات عموماً تحتاج إلى بيئة جاذبة وسياسات مالية ونقدية محفزة وليست منفرة، ومن ضمن ذلك معالجة الخلل الهيكلي والتشوهات عن طريق توحيد سعر الصرف ورفع الدعم بتحرير الاقتصاد وتشجيع المستثمرين للعمل إلى جانب الدولة التي يمكنها العمل في مجالات لا يدخلها القطاع الخاص”.
توظيف الدعم
في سياق متصل، يسرد حسام هيثم، أمين عام “منظمة الشباب الثوري للديمقراطية والتنمية”، تجربته في إنشاء منظمته الخاصة بعد قيام الانتفاضةالسودانية “ينقسم العون المادي إلى مباشر وغير مباشر. يتمثل العون المباشر في الدعم المالي الذي يُوظف في فعاليات المناشط الثورية مثل المواكب والفعاليات السياسية والإعلام، وغير المباشر وهو الأدوية والأدوات الصحية ويستفاد منه في علاج المصابين أثناء التظاهرات وتوفير أدوات السلامة للثوار المشتبكين في الخطوط الأمامية”.
ويواصل “أهم ما يُقدم من إعانة يذهب لعلاج المتظاهرين والإصابات، كما يذهب الدعم مباشرة إلى المستشفيات ومن أبرزها مستشفى رويال كير، والعلاج بالخارج، وأغلب مصادر الدعم تأتي من مساهمات السودانيين العاملين بالخارج والجاليات السودانية وبعض رجال الأعمال المؤمنين بالتغيير”.
ويوضح هيثم “في المرحلة الأخيرة اتفقنا على ألا نقبل الدعم المالي المباشر، لكثرة الجدل والصراع حوله بين الأحزاب السياسية والتنظيمات المدنية”.
اندبندنت البريطانية