ضياء الدين بلال يكتب: أيام محمدية .!

 

والتليفزيون كائن سحري يدخل منزلنا بحي المزاد بلونيه (الأبيض والأسود) في مناقل الخير والوفاء ليغير الخارطة الزمنية لأمسياتنا.
كانت الأغاني تتخلل البرامج عبر روائع عثمان حسين ووردي وأبو داود والأنيق عبد العزيز المبارك (تحرمني منك ويبقى عمري أسى وجراح).
بين كل ذاك الجمال كانت ابتسامة ناصعة لشاب أبنوسي يميل إلى سمنة نادية تشكل حضورًا لافتًا بين جميل الأنغام والألحان.
كنا نستمتع بابتسامة محمدية وهو يمسك بآلة الكمان ليفعل بها ما يشاء يجعلها تغرد وتضحك وتبكي كما الأطفال.
ابتسامة محمدية الناصعة كانت واحدة من إشراقات وعلامات ذلك الزمن الصافي الجميل.
وحينما اشتعل اهتمامي بالأفلام الوثائقية ، كانت واحدة من الأفكار التي تراودني إنتاج فيلم عن محمدية وشرحبيل أحمد.
ومع حسين خوجلي تحضر الفرص الضائعة، كان الموعد مع حسين إجراء مقابلة رمضانية مع ثلاثة صحفيين في أجيال متعددة في برنامج ( تواشيح النهرالخالد)، الباشمهندس عثمان ميرغني وشخصي غير الضعيف وآخر.

غاب الاثنان وحضرت بفرحة ضيافة أبو عبد الإله ، المغنون كانوا حضورًا والعازفون منهمكون في تجهيز آلاتهم.
البرنامج كاد أن يلغى. كنت وقتها أتأمل في ملامح محمدية وهي خالية من تلك الابتسامة الناضرة، ربما أصبحت مغطأة بطبقة من الحزن الكثيف.
فاجأتني فكرة خاطفة قلت لحسين: (لماذا لا نجعل من هذه الحلقة مناسبة لتكريم محمدية بتحويله من مقاعد العازفين إلى مقاعد الضيوف؟، الرجل ظل لخمسين عامًا يحيي كل مناسباتنا السعيدة في صمت دون أن يقول كلمة واحدة).وحسين بارع في تطوير الأفكار وتجميلها فكانت الحلقة واحدة من أجمل حلقات البرنامج التي تجاوزت الأربعين.

وكان الاكتشاف المدهش أن محمدية يحمل رؤى فلسفية في الفن والحياة وحتى في السياسة، كان استفتاء الجنوب على المشارف وكانت كل الطرق تؤدي للانفصال.
في تلك الليلة وبين سؤال وإجابة وضع محمدية فكرة ماسية على جيد الحلقة،حينما قال: (في بورتسودان كنت صبي نجار مع معلم كبير كان يردد لي دائمًا قيس ألف مرة وأقطع مرة واحدة حتى لا تندم)!

كان يصف معشوقته آلة الكمان- برفق عاتب- بأنها فاضحة للأخطاء ويمكن للإنسان العادي أن يلحظ هناتها وهفواتها.
كان ماهرًا في العزف وبارعًا في كرة القدم تزوج الأولى وطلق الثانية، وقال للصحفي النابه يوسف دوكة في آخر حوار:(لو كنت بلعب كورة كان جاني شد عضلي أو كسر في الأنكل وكان هسي من مستشفى لمستشفى، عشان كدا أخير لي كماني دا لا بكسر (كراعي) ولا بجيب لي شد عضلي) ..بعدها أطلق ضحكة مجلجلة، وختم الحوار بتوقيع ابتسامته تلك.
بعد تسجيله لآخر حلقة في برنامج (أغاني وأغاني) بقناة النيل الأزرق. لزم الموسيقار ملك الكمان محمدية فراش المرض.

لم يكن العازف المخضرم يدرك أنه هرب من إصابات الملاعب ليصاب بآلام الغضروف الحادة لطول الجلوس أغلب اليوم في حضرة الكمان.

كانت أوتار الكمان الأربعة وقوسها بمنزلة أبنائه وبناته، يتعهدهم بالاهتمام والرعاية، سهر الليل وتدريبات النهار شغلته عن تكوين أسرة صغيرة تراعيه حين يوهن العظم وترتخي الأصابع ويعز الوفاء .

تطور المرض و تسرب الحزن والاكتئاب إلى مسام الروح، هجر محمدية كمانه، وظل يقضي الليل والنهار في غرفته بلا ضوء ولا جليس إلى أن فارق الحياة، له الرحمة والمغفرة.

*في ذكرى رحيله.

Comments (0)
Add Comment