أماني الطويل تكتب ما هى أزمة البعثة الأممية في السودان

د. أماني الطويل
ما زالت الأزمة السياسية السودانية تراوح مكانها، ولم تستطع لا البعثة الأممية التابعة للأمم المتحدة، ولا الآلية الثلاثية التي تشارك فيها مع كل من الاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيجاد، منذ مارس الماضي (2022)، أن تجد مخرجاً يقود إلى حكومة سودانية متوافق عليها، وذلك تحت مظلة فترة انتقالية مؤطرة بضمانات محايدة لعملية انتخابية يترقبها الجميع تهدف لتأسيس شرعية سياسية جديدة، بعد أن أسقطت ثورة ديسمبر 2018 شرعية النظام السوداني القديم.
ويمكن القول إن الأسباب الرئيسية لتصاعد مُركبات الأزمة السودانية مسئول عنها -على نحو متساوٍ- أطراف المعادلة الدولية والإقليمية المنوط بها حل الأزمة، وذلك إلى جانب الأطراف السياسية المحلية من حيث تطلعاتها السياسية وكذلك طبيعة تحالفاتها ومصالحها.
ويبدو أن عوامل فشل الطرف الدولي تعود بشكل أساسي إلى المفهوم الذي تستند إليه البعثة الأممية كمُحدِدات عمل لها في الأزمة السودانية، والتي نشأت طبقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2524، على أن تستغرق مهمتها عاماً اعتباراً من يناير 2021 وتكون قابلة للتمديد، ذلك أن محددات عمل البعثة الأممية تمت بلورتها في إطار فضفاض ومقولات عامة، وهي دعم عملية التحول الديمقراطي في السودان. كما خضع رئيس البعثة فولكر بيرتس لكثير من الضغوط السياسية من أطراف الأزمة السودانية للتأثير في مسارات عمل الأمم المتحدة، ومن ذلك انتقادات رئيس المجلس السيادي الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قبل عدة شهور، وهو ما عكسه تفصيلاً رئيس تحرير صحيفة “القوات المسلحة” العقيد الركن إبراهيم الحوري، حيث اتهم البعثة الأممية في أبريل الماضي بـ”الخروج عن إطار تخصصها والمهام التي جاءت من أجلها، والانحياز إلى جهات بعينها، وتقديمها معلومات مغلوطة”، وطالب بإعادة ضبط عملها في الإطار المنصوص عليه فقط.
هذه الضغوط من جانب المكون العسكري السوداني جعلت فولكر ينأى بنفسه عن بلورة مشروع توافق سياسي سوداني يتم طرحه كمقترح على الأطراف طبقاً للخبرات الدولية في مثل هذه الأزمات، وذلك على الرغم من إنجازه لعملية تشاور سياسي واسع تمت خلال الثلاثة الشهور الماضية، عبر 110 اجتماع مع 800 فاعل سياسي واجتماعي سوداني، حيث تلقى حوالي 80 مقترحاً مكتوباً من الأطراف الأساسية في العملية السياسية السودانية.
كما أجرى فولكر عمليات تفاوض غير مباشرة بين الأطراف، منذ مارس الماضي، لم ينجح في تحويلها إلى مفاوضات مباشرة بين أطراف الصراع السوداني في 10 يونيو من الشهر الجاري (يونيو 2022)، بعد أن رفضت قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) أن تجلس على مائدة واحدة مع أطراف سلطة الأمر الواقع أو حلفائها، وهو الأمر الذي أسفر عن تعليق عملية التفاوض لمدة ثلاث أسابيع، حيث تم استئناف التشاور مؤخراً في عملية سياسية جديدة غير مضمونة النتائج، وذلك باجتماعات بدأتها البعثة الأممية مع أطراف الأزمة.
أما الطرف الإقليمي الذي يمثله الاتحاد الإفريقي فلم ينجح في أن يكون مؤثراً بشكل إيجابي، وذلك على النحو الذي مارسه في عام 2019 للتقريب بين الأطراف، حين أنتج الوثيقة الدستورية في أغسطس من العام نفسه، وهي الوثيقة التي أسست لشراكة سياسية بين المكونين المدني والعسكري تعرضت لأزمة كبيرة في أكتوبر 2021.
وقد اضطر الاتحاد الإفريقي لاتخاذ قرار تعليق مشاركته في الآلية الثلاثية، وذلك عطفاً على قوة الهجوم من طرف القوى السياسية السودانية المعارضة التي ترفض التفاوض مع المكون العسكري السوداني الذي تتهمه بالمسئولية عن انتهاكات واسعة ضد الشباب، خصوصاً بعد مقتل 500 شخص في مجريات الصراع السياسي السوداني في الساحات والشوارع منذ أبريل 2019، على نحو يشكل ضغطاً سياسياً قوياً على الأطراف المعارضة.
في هذا السياق، هاجم بيان لقوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) الاتحاد الإفريقي مطالباً بأن يتم التعامل بحسم تجاه سعي الاتحاد الإفريقي لإشراك منتسبي نظام الرئيس المخلوع عمر البشير في الحوار السياسي بذريعة شموليته، مشيراً إلى أن العملية السياسية التي أطلقتها الأمم المتحدة والتي ترعاها الآلية الثلاثية الهدف منها هو معالجة أثر انفراد المكون العسكري بالسلطة، وهو ما نتج عنه -بحسب البيان- انسداد الأفق السياسي في السودان.
وقد تبلور موقف تحالف الحرية والتغيير ضد الاتحاد الإفريقي على أثر تصريح لسفير الاتحاد في الخرطوم، محمد بلعيش، الذي اتهم المعارضين بإقصاء حلفاء المكون العسكري عن موائد التفاوض، وقال بيان صادر عن التحالف (قحت)، إن الآلية الثلاثية قد تبلورت لدعم مجهودات السودانيين للوصول إلى حل سياسي ينهي ما جرى في أكتوبر 2021 من تكوين حاضنة سياسية مصنوعة متحالفة مع المكون العسكري، حيث طالب بيان المعارضة السودانية بضرورة “تحديد أطراف العملية السياسية ومراحلها بصورة تضمن شمول الحل دون إغفال أو إقصاء أي طرف من الأطراف، وتعبيره في ذات الوقت عن الثورة وقضاياها والالتزام بالتحول المدني الديمقراطي”.
وقد دعم موقف “قحت” العديد من منظمات المجتمع المدني السوداني وممثلي الحركات الشبابية والمجتمعية، ولعل أبرزهم جبهة محامي دارفور ومنظمة العمل المدني السوداني اللتان هاجمتا حتى شخص ممثل الاتحاد الإفريقي في الآلية الثلاثية وأدانت ما تقول إنه انحياز سياسي لصالح المكون العسكري وحلفائه.
على المستوى الداخلي، أنتج فشل المفاوضات المباشرة التي رعتها الآلية الثلاثية خلال الثلاثة الشهور الماضية -وذلك بسبب غياب المجلس المركزي للحرية والتغيير- متغيرات مهمة في المشهد السياسي الداخلي، حيث جنحت بعض الأطراف المتحالفة مع المكون العسكري إلى تحويل دفتها نحو القوى المعارضة الأساسية التي انشقت عنها سابقاً، وعقد أركو مني مناوي، حاكم دارفور، ومبارك أردول، المتحدث باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان، اجتماعاً بقيادات حزب الأمة القومي برئاسة مريم الصادق وزيرة الخارجية السابقة، للنقاش حول كيفية العودة إلى منصة التأسيس، ودعم حوار سوداني جديد، وهو متغير يعني عودة وزن نسبي لقوى المعارضة لن يكون مؤثراً إلا إذا أنتجت هذه القوى قائداً سياسياً يكون عنواناً لها، ومحطاً للتفاعل الدولي والإقليمي وذلك بعد غياب عبدلله حمدوك، رئيس الوزراء السابق، من المشهد السياسي السوداني منذ 7 أشهر تقريباً.
معادلة التوازن القائمة في السودان لن تتغير ما لم تكن هناك مقاربة دولية جديدة؛ ففي ظل عدم قدرة المكون المدني على إنتاج قيادة سياسية متفق عليها، فإن ذلك أسفر عن الاستثمار الدولي والإقليمي في شخوص المكون العسكري، لعدد من الأسباب منها، أولاً، صعوبة خلق بدائل عسكرية من داخل القوات المسلحة السودانية، وذلك في وقت تتوافق فيه جميع الأطراف الدولية والإقليمية على ضرورة وجود القوات المسلحة السودانية في المعادلة السودانية، وذلك خشية انهيار الدولة. ومنها، ثانياً، حساسية التواصل من الجانبين الإقليمي والدولي مع أطراف من خارج المجلس السيادي خشية أن يؤدي ذلك إلى سقوط مؤسسة الدولة ذاتها في السودان. وطبقاً لهذا المشهد، فإن الأطراف الدولية، فيما يبدو، قد اختارت أن تعمل على إضعاف المكون العسكري الراهن، وذلك عبر اتخاذ “نادي باريس للدول الدائنة” قراراً في 18 يونيو 2022، بتعليق الخطوات التي بدأت العام الماضي والتي دخل بموجبها السودان مبادرة “تخفيف أعباء البلدان الفقيرة المثقلة بالديون” (هيبيك) في مايو 2021، ومن ثم تعليق قرار الإعفاء من ديون السودان المقدرة بنحو 64 مليار دولار؛ وذلك طبقاً لتقرير مجموعة باريس التي أعلنت أنها “ستواصل التنسيق مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسات التمويل الدولية حتى التأكد من عودة السودان إلى المسار الانتقالي المدني الذي حصل بموجبه على تلك الإعفاءات”.
إجراءات نادي باريس سوف تلقي بكثير من الضغوط على المكون العسكري على الصعيد الداخلي، وذلك في وقت تصعب فيه المناورات السياسية تحت مظلة الأزمة الروسية-الأوكرانية وانشغال كل من موسكو وبكين بهذه الأزمة الكبرى من ناحية، وعدم رغبتهما في التورط في الأزمة السودانية في هذا التوقيت الذي تغيب عنه قدرة أي طرف سوداني على إزاحة الطرف الآخر، وذلك حتى 30 يونيو القادم موعد تظاهرات ضد المكون العسكري من المتوقع أن تكون حاشدة في ضوء إشارة نادي باريس بتعليق قرار الإعفاء من الديون.
إجمالاً، سيكون من المطلوب من بعثة الأمم المتحددة، وكذلك الآلية الثلاثية المتضمة الأطراف الإفريقية في المرحلة القادمة، أن تحدد على وجه الدقة موقفاً بين الأطراف الحقيقية الداعمة لعملية التحول الديمقراطي تاريخياً، وبين الأطراف الجديدة لضرورات سياسية داخلية، وربما من هذه الزاوية تستطيع الأمم المتحدة والآلية الثلاثية أن تستفيد من خطوة نادي باريس الأخيرة، وأن تجد بصيص ضوء في النفق السياسي السوداني.
نقلاً عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

Comments (0)
Add Comment