(آسيا وأفريقا) عنوان قصيدة للشاعر المرحوم صاحب (الشلوخ المطارق) والشموخ الباذخ تاج السر الحسن تمجد حركات التحرر والثورية في القارتين الآسيوية والأفريقية.. صدح بها العملاق المرحوم عبد الكريم الكابلي الذي يقال إن اسمه من (كابول) أجعلها اليوم مع (أرض الله الواسعة) عنواناً لموضوعي وفطنة القارئ تدرك علاقة العنوان بالموضوع وفكرة التعددية في الإسلام مع فكرة التجنيس الحديثة..
الثورة السودانية التي مرت عليها أعوام ولا ندري الى أين تقودنا كانت في تاريخ متزامن مع فوز دولة قطر بكأس آسيا..
وقد شاهدت مباراة نهائي كأس آسيا في ذلك اليوم من فبراير 2019 وأنا مغترب بدولة الإمارات بمشاعر محتشدة ومتناقضة.. شيء من الحزن والأسى وبعض من الفرح والنشوة.. مما جعلني أسأل نفسي في تلك اللحظات: أين أنا الآن؟؟..
لم يسرني وكثيرون غيري خروج (الإمارات) بالهزيمة القاسية من (قطر).. وبعيداً عن السياسة والخلاف بينهما في تلك الأيام (أرى بوادر تلاشيه حاضرة الآن)
ومن باب الأدب واحترام البلد التي احتضنتني أكثر من عقدين من الزمان وهي مسقط رأس أبنائي جميعاً.. بكل المقاييس هي بلدي الثاني ولها خصوصية عندي واحتراماً ولها من الأفضال عليّ وعلي أهلي الكثير..
أما منتخب قطر ضد اليابان فشدني اليه اللون الأسمر الذي يكسو وجوه لاعبي الفريق القطري والأسماء التي تنم عن (سودانية أصيلة) كيف لا والمذيع عندما يذكر (مادبو) واصفاً البطل قصير القامة بالدبابة البشرية ثم يكرر (مادبوووو) ليرحل بي الى غرب السودان حيث قبيلة الرزيقات العرب الرحل المنتشرين في كردفان ودارفور وناظرهم (مادبو) فيبدو لي هرم من أهرامات السودان فتتمدد روحي الى ذلك الوطن الحبيب وسهول (كردفان الغرة أم خيراً جوة وبرة).. وأنا ملقٍ جسدي على أريكة راقية في دولة الإمارات الحبيبة.. وفجأة أجد نفسي أصرخ مع هدف الفارس الأسمر المعز الذي يكسر كل الأرقام السابقة في البطولة الآسيوية.. شباب في عنفوانهم مشحونون بحب الشعار والانتماء للأرض التي ولدوا أو عاشوا وترعرعوا فيها وبهم جسارة المهدي وعثمان دقنة وود حبوبة وعبد اللطيف وكل (جدودنا زمان) فهي جيناتهم لا تفارقهم أبداً ترحل معهم أين ما رحلوا ويحملونها ما بين الصلب والترائب.. المعز.. مادبو.. أحمد عبد العزيز.. المعز وغيرهم من الشباب الاشاوس..
كلهم في بداية العشرينيات من عمرهم ولدوا في عهد (الإنقاذ) وربما في الغربة بعد أن شُرد آباؤهم في عهد (التمكين) فاحتضنتهم دولة قطر وكان من الممكن أيضاً أن تحتضنهم الإمارات أو إنجلترا أو ألمانيا أو أي مهجر آخر في عهد التهجير.. المهم أنهم وجدوا الرعاية والاهتمام بمواهبهم وتدرجوا في الأكاديميات الرياضية والفرق العمرية حتى وصلوا الى ما وصلوا اليه وحتى نال وطنهم شرف بطولة آسيا لأول مرة في التاريخ وغالباً ما يخرج الفريق القطري من المنافسة في دوري الثمانية أو قبله..
نعم (قطر) وطنهم ولا عجب وأكررها إنهم (قطريون) حتى النخاع.. ثم يسكنني الأسى العميق وأنا أسأل نفسي السؤال الذي يفترض أن يسأله أي سوداني لنفسه.. ما هو مستقبل هؤلاء لو ولدوا وعاشوا في (السودان) وفي عهد (الإنقاذ) الذي لا يعير المواهب أدني اهتمام؟؟..
قطعاً الإجابة لا تحتاج كثير عناء.. انتهت تلك المباراة الممتعة حقاً قبل سنوات وما زلت مسكوناً بالألم وجراحي تزداد وتنزف دماً على وطن يقتل المواهب بالتشريد وعندما ينتفضوا ليستشرفوا مستقبلهم يقتلهم بالرصاص…
سيقول الكثيرون منكم إنهم فخر بلادنا السودان وأقولها لكم بالصوت العالي أنتم مخطئون إنهم فخر بلدهم (قطر) فخر من رعاهم وليس فخر من شردهم ومع إخوانهم حققوا النصر الرياضي (لدولتهم) وبالمؤسسية والقانون تكسبنا الدول ويخسرنا الوطن..
وهناك قول ينسب لسيدنا الإمام علي رضي الله عنه يقول: (الفقر في الوطن غربة والغني في الغربة وطن) والفقر لا نقصد به المال فحسب.. فهنيئاً لهم ببلدهم الذي جند لهم المال للفكرة والبناء.. وشتان بين مال للتجنيد (والتجنيب) والآخر تجنيد المال للبناء والتعليم والتعمير..
عدت لبلادي مع ثورة الشباب وما زالت شوارع السودان المترعة بالدماء تذكرني بأبناء السودان الذين اتخذوا المهاجر أوطاناً وأصبحوا من المشاهير في كل العالم وبكل المجالات العلمية والرياضية وغيرها… ارحموا صغارنا الموهوبين الأذكياء من كل القبائل وأوقفوا هذا العبث.. الثورة تزامنت مع كأس آسيا الذي فازت به (قطر) بالدماء السودانية التي جرت بالتجنيس في الشرايين القطرية واحترام الإنسانية واحتضان المواهب في (أرض الله الواسعة) وقطر تخطو الآن نحو كأس العالم المرتقب وذات الدماء نهدرها نحن هنا في شوارع الخرطوم ودارفور والنيل الأزرق وجبال الانقسنا وكسلا وبورسودان… والقبلية والجهوية البغيضة تقتلنا كل يوم… ولك الله يا وطني.