بصدور قرار المحكمة القومية العليا – الدائرة الجنائية – في قضية المتهمين بقتل الشهيد العميد بريمة، فقد حسمت المحكمة العليا الموقرة، جدلا لطالما احتدم بين أهل القانون، حول موقف القانون السوداني من السماح لدفاع المتهم بالاطلاع على محضر التحري. و قد جاء قرار المحكمة العليا موضحا أن سكوت القانون عن سرية المحضر بعد أن نص عليها القانون السابق، لا يمكن تفسيره بغير الإباحة..
و لم تقطع جهيزة قول كل خطيب فحسب، بل ذهبت المحكمة القومية العليا إلى تقرير حق الدفاع في الاطلاع على يومية التحري قبل المحاكمة و فور توجيه التهمة ؛ و في ذلك تقول المحكمة الموقرة :
{ و ما يؤكد أن المشرع قد قصد عدم السرية أنه قد نص في المادة (21) إجراءات الفقرة الثانية بأن قرار وكيل النيابة حينما يصدر قراره بتوجيه التهمة يستأنف هذا القرار إلى رئيسه المباشر ثم لرئيس النيابة العامة.
و هذا يعني ضرورة اطلاع محامي الدفاع على يومية التحري لكتابة مذكرته و تقديم حججه و لا يتم ذلك إلا بالاطلاع مما يؤكد أن يومية التحري ليست سرية بعد انتهاء التحري و توجيه التهمة و إحالة الدعوى للمحاكمة.
و نرى خلافا لما ترى مذكرة النيابة أن السماح للاتهام بالاطلاع بعد انتهاء التحري و قبل أو أثناء المحاكمة يعد تطورا جيدا نحو إرساء المحاكمة العادلة مما قد يتيح للمتهم الاطلاع على ما يقدم في مواجهته من بينات ليقوم بمناهضتها …. }
لا نملك إلا الإشادة بهذا الحكم الذي يعد درة من درر أحكام القضاء السوداني، فهو يرسي دعائم المحاكمة العادلة، و يمتّن عَمَدها، بتقرير حق الاطلاع للدفاع، و هو حق قانوني تفرضه مبادئ العدالة و الإنصاف.
كما لا يغيب علينا تقدير تضحية المتهمين الذين قبلوا أن تكون قضيتهم قضية من أجل العدالة، تسهم في إرساء مبدأ عدلي يطبق على كافة المتهمين في البلاد، متحملين في ذلك رهقا و انتظارا في الحبس .
و قد مضت المحكمة العليا الموقرة في إرساء قواعد جديدة للمحاكمة العادلة، إذ تقرر السماح للدفاع بالاطلاع على يومية التحري “بعد انتهاء التحري و قبل أو أثناء المحاكمة” .
و بهذا، و حتى صدور قرار يلغي ذلك أو يعدله، فقد تلاشت أسطورة السرية المفروضة على اليومية بعد انتهاء التحري و توجيه التهمة. و أصبح من حق الدفاع الاطلاع على يومية التحري، لمناهضة قرار توجيه التهمة بواسطة النيابة، حتى في مرحلة ما قبل المحاكمة.
و يمكن لكل ذي عقل تفهم أسباب طعن النيابة العامة ضد قرار المحكمة بقبول طلب الدفاع بالاطلاع على يومية التحري، فذلك دفاع عن حق حازته النيابة سنين عددا، و ظنت و بعض الظن إثم، أن حيازتها التي لا تستند إلى نص قانوني، أصبحت امتيازا لا يجوز المساس به ..
بيد أن ما يتعذر فهمه هو اعتراض النيابة – و ممثل الاتهام بالحق الخاص – على قرار الموافقة على إحالة المتهمين للقمسيون الطبي، بغرض الكشف عن واقعة تعرضهم لتعذيب . ما الذي يضير هيئة الاتهام من قبول طلب المتهمين الذين يزعمون أنهم قد تعرضوا للتعذيب ؟ و هل تسعى هيئتا الاتهام إلى مجرد إدانة المتهمين، سعيا يجعلها تنبذ قواعد المحاكمة العادلة ؟ و ما هي جدوى الاعتراض على قرار يصدر عن جهة علمية فنية محايدة، يثبت أو ينفي واقعة جوهرية كالتعذيب ؟
إن واجب الاتهام هو تقديم أدلة و بينات، تثبت ارتكاب المتهم للجريمة، و توفر القصد الجنائي لديه وقت ارتكاب الجريمة، للحكم بإدانته، إثباتا بدرجة تفوق الشك المعقول beyond the reasonable doubt
و يجب أن تكون هذه البينات مشروعة و تم الحصول عليها بطريقة شرعية و وفقا لإجراءات قانونية سليمة .
أما البينة المتحصل عليها جراء تعذيب المتهم، فلن يختلف عاقلان حول كونها بينة مردودة، لا قانونية، بل إنها تمثل جرائم يعاقب عليها القانون حال ثبوتها. ابتداء بجريمة التأثير على سير العدالة ( م 115 و خصوصا الفقرة الثانية )
و جريمة الأذى ( م 142 و خصوصا الفقرة الثانية )
و جريمة استعمال القوة الجنائية ( م 143)
و جريمة الإرهاب ( م 144 ) .. هذا فضلا عن جريمتي اختلاق البينة الباطلة، و تقديمها مع العلم ببطلانها ..
ليس من حق البوليس أو غيره، تعذيب أي متهم، و حمله على الاعتراف قسرا، بجرم يعاقب عليه القانون، و الجريمة المتهم بارتكابها هي جريمة القتل العمد و هي جريمة كبرى Capital Offense .. و لا يجب أن تتهاون النيابة العامة في التحقيق حول أي ادعاء بالتعذيب، فهي الخصم الشريف الباحث عن الحقيقة لا عن الإدانة، و هي حارسة من حراس العدالة الذين يقع على عاتقهم واجب مقدس هو ضمان المحاكمة العادلة. و يجب أن تقوم النيابة بعملها في إطار مبادئ المشروعية و الشرعية، لا وفقا لأساليب محاكم التفتيش. كما يجب عليها الالتزام بواجبها في الموازنة بين مصلحة المجتمع و بين حقوق المتهم التي يكفلها القانون و الدستور و المواثيق الدولية.
إن المتهم برئ حتى تثبت إدانته فوق مستوى الشك المعقول، بحكم قضائي نهائي .. هذا هو ما يقرره نص القانون، و الدستور و مبادئ العدالة .. و لكن النيابة تبتدع مبدأ جديدا، لا يستند إلى نص بل يخالف النص، فحواه أن المتهم – في مرحلة التحريات- مدان حتى تثبت براءته !!
و ترديد هذا القول الملقى على عواهنه لا يعدو أن يكون افتئاتا على الحق، و تجن على العدالة و الحقيقة، و إنكارا لمبدأ أساسي لا يقبل من منكره صرفا و لا عدلا .. و إلا، فليأتنا القائلون به ببرهان مبين، و لن يأتوا به و لو أمهلوا إلى يوم يبعثون. فكيف السبيل إلى إثبات عكس ما قرره القانون لحكمة واضحة، لا تحتاج شرحا و لا تأويلا، شرعت لحماية حقوق الفرد لا لاضطهاده و غمط حقوقه بالباطل .
كيف لباحث عن العدالة أن يقرر سبق الإدانة ثم يبحث بعد ذلك عن براءة ؟ إن هذا لأمر عجاب .. إن المتهم برئ سواء كان ذلك في مرحلة المحاكمة أم فيما قبلها.
و من عجب أن النيابة تؤكد على مشروعية الطلب و تعترض على تقديمه !! و في ذلك يحتاج الذهن السليم إلى ترجمان يفسر سبب اعتراض النيابة العامة على طلب مشروع، لا يسعى مقدمه إلى المراوغة أو تضليل العدالة، بل العكس من ذلك تماما، إنه ادعاء خطير يجب التحقق منه، لا الاعتراض عليه ..
إن استئناف هيئة الاتهام قرارات محكمة الموضوع، حق مشروع لهيئة الاتهام، لا مراء في ذلك.
و لكن علمها المؤكد أنها قرارات لا تنهي الخصومة، و تخرج عن التدابير التي يجوز استئنافها المحددة في المادة(179) على سبيل الحصر لا المثال، يجعلها تبدو محض مماطلة و تطويل لإجراءات المحاكمة .. و هو سلوك يلجأ إليه أصحاب القضايا الخاسرة .
للأسف الشديد، و لضيعة العدالة، فقد تقدمت هيئة الدفاع عن المتهمين الأول و الثاني و الثالث، بطلب للنيابة بإحالة المتهمين للقمسيون الطبي، للكشف عن وجود آثار تعذيب عليهم، و لكن النيابة امتنعت عن الرد على هذا الطلب، حتى اليوم. و لنا أن نتسائل: هل يعد امتناع النيابة عن الرد على الطلب و قبوله، مخالفة لما يأمر به القانون بشأن المسلك الواجب عليها اتباعه ؟ أم أن النيابة اتبعت صحيح القانون بتجاهل الرد على هذا الطلب ؟
و على ذات النسق، جاء اعتراض هيئتا الاتهام على قرار محكمة الموضوع بقبول طلب المتهمة الخامسة منحها الإذن للتغيب عن جلسات المحاكمة، اعتراضا لمجرد الاعتراض، فحق المحكمة في تقرير ذلك حق كفله لها القانون، مانحا إياها سلطة تقديرية لمنح الإذن بالتغيب، متى ما تحققت من عدالة هذا الطلب.
ختاما، فإن هذا الحكم يصدق عليه وصف الحكم التاريخي، و سيظل علامة فارقة في مسيرة القضاء السوداني في تطبيق و تفسير القانون .. يسترشد بها أهل الحقوق ..
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..