ببحصافة
نأى كثيرٌ من السودانيين في الأيام القليلة الماضية بأنفسهم، بعيداً عن السياسة ودهاليزها المظلمة، وأخبارها المضطربة، وانشغلوا ولو إلى حينٍ، بالجدل واللغط بعد نجاح عمليات زراعة الكبد في مستشفى علياء التخصصي بأمدرمان، وذلكم بُعيد إعلان بعض الأطباء في مستشفى ابن سينا في الخرطوم، مغاضبتهم، لحيثيات المؤتمر الصحافي للفريق الطبي المُعالج بمستشفى علياء التخصصي، إذ غاظهم أنه لم يُشار إلى سابقيتهم في زراعة نقل الأعضاء البشرية. واستشاطوا غضباً ألا تُذكر مجهودات الأطباء الذين أسهموا بقدرٍ فعالٍ في عمليات نقل الأعضاء البشرية في السودان، من أمثال البروفسور الراحل عمر محمد بليل مدير جامعة الخرطوم الأسبق والبروفسور مأمون حُميدة وزير الصحة بولاية الخرطوم الأسبق والدكتور الراحل كمال أبو سن استشاري أمراض الكُلى.
وكان البروفسور مأمون حُميدة قد قدم دعماً غير محدودٍ، إبان تسنمه وزارة الصحة في ولاية الخرطوم، وذلكم بتطوير عمليات زراعة الكُلى، والتأسيس لزراعة الكبد، ضمن سياساته الرامية إلى توطين العلاج في الداخل.
استعرض في هذه العُجالة بعضاً من المجهودات التي بُذلت في مجالات زراعة الأعضاء البشرية في السودان، منذ ستينات القرن الماضي، وذلكم لقربي من القطاع الطبي الصحي، منذ بواكير عهدي متدرباً في جريدة الصحافة، وكان الدكتور الراحل أحمد عبد العزيز يعقوب مدير عام مستشفى الخرطوم وقتذاك، يدعم الصحافيين في تغطيتهم للقطاع الطبي والصحي.
مما لا ريب فيه، أن زراعة الأعضاء البشرية، أعطت فرصة لكثير من المرضى الذين يعانون من الأمراض المزمنة التي تؤدي إلى الوفاة، بأن تكون لهم فرصة كبيرة في الحياة، وتكون لهم فرصة بأن يعيشوا في وضعٍ صحيٍ متميزٍ. قد حاول الإنسان منذ القدم أن ينقل جزءاً من إنسانٍ حيٍ إلى إنسانٍ مريضٍ. ولعل من أبرز عمليات نقل الأعضاء التي أتت جدواها، وتطورت تطوراً كبيراً، هي زراعة الكُلى التي أصبحت الآن من العلاجات الناجحة، بل صارت من العلاجات المهمة لمرض فشل الكُلية المزمنة.
وقد بدأت زراعة الكُلى في السودان في ستينات القرن الماضي. وأحسبُ أن أشهر مريضٍ سودانيٍ عُولج بزراعة الكُلى، هو البروفسور الراحل عمر محمد بليل، وعاش بعدها سنين عدداً. وبدأت هذه العلاجات بنقل أعضاء المرضى الذين يُقال إنهم ماتوا سريرياً، حيثُ تؤخذ منهم هذه الكُلية ثم تُزرع في مريضٍ مصابٍ بمرض الكُلى المزمن.
ومن الأخطاء الشائعة، الاعتقاد أن زراعة الكُلى تستوجب إزالة الكُليتين المعطوبتين، وزرع الكُلية المنقولة في مكانهما، ولكن ما يحدث أن تُتركا في مكانهما. وتتم زراعة الكُلية الجديدة، بالقرب من المثانة، ويمكن أن تُغذى بالشرايين والأوردة التي تؤخذ من الشخص السليم المتبرع. ومن علامات نجاح زراعة الكُلى أن يتبول المريض المزروعة له الكُلية، وهو في أثناء العملية، مما يدل على أن الكُلية بدأت تعمل بصورةٍ طيبةٍ. وعند بعض المرضى تُصيب الكُلية المنقولة صدمة، وهذه الصدمة قد تستمر ثمانية وأربعين ساعة، بعدها تستعيد الكُلية عافيتها، ويتبول المريض.
وكان السودان سابق بعض الدول الأخرى في زراعة الكُلى، إذ أن أول مريض زُرعت له الكُلية بالسودان، في سبعينات القرن الماضي، وكان سعودياً. وقد قام بإجراء تلكم العملية الرائدة البروفسور عمر محمد بليل كبير إستشاري جراحة الكُلى والمسالك البولية والدكتور عثمان عوض الله، وكان الطبيب المعالج للمريض هو الدكتور حسن أبو عائشة. رغم أن هذه العملية، أثبتت عملياً أن السودان قادرٌ على هذا النوع من العلاجات، إلا أن المريض قد تُوفي، ثم حدثت فجوة أو فراغ كبير جداً أو تلكؤ في زراعة الكُلى، إلى عهد الأخ الدكتور عبد الله سيد أحمد وزير الصحة بولاية الخرطوم آنذاك والدكتور الصادق قسم الله اللذان اهتما بهذا الأمر، حيثُ أقاما قسم زراعة الكُلى في مستشفى أحمد قاسم بالخرطوم بحري، وبمساعدة الدكتور الراحل كمال أبو سن إستشاري جراحة الكُلى والمسالك البولية الذي لا بد أن نذكر دوره الكبير في إنجاح عمليات زراعة الكُلى في السودان، ورغم الحملة الجائرة التي شنها ضده مغرضون، إلا أنه بالثابت، هو الرجل الذي أرسى دعائم بُنيان زراعة الكُلى في السودان. ودرب عدداً كبيراً من الأخصائيين في زراعة الكُلى، وكانت تلكم فترةٌ ناجحةٌ، تدرب على يديه عددٌ من الأخصائيين، ولكن بفضل هذه الجهود، أصبحت زراعة الكُلى شيئاً ثابتاً في البلاد. وفي السودان، كل الذين تمت لهم علاجات زراعة الكُلى هم من الذين تلقوا التبرع من الأصحاء، على عكس الدول الأخرى التي تعتمد أساساً على الذين ماتوا سريرياً في أخذ الكُلى.
هذا ما كان في زراعة الكُلى، إذ أنه من الضروري، أن نشكر فترة الإنقاذ التي جعلت غسيل الكُلى مجاناً تماماً لمدى الحياة. وزراعة الكُلى أيضاً، كانت تجري مجاناً في مستشفى أحمد قاسم بالخرطوم بحري ومستشفى ابن سينا بالخرطوم.
ومن المهم في هذا الصدد، أن نذكر أن عدد مرضى غسيل الكُلى، قد وصل إلى أكثر من أربعة آلاف مريض في ولاية الخرطوم، في عهد البروفسور مأمون حُميدة وزير الصحة بولاية الخرطوم آنذاك. وقد انتشرت ماكينات غسيل الكُلى في جميع ولاية الخرطوم، حتى المراكز الصحية في الأرياف والأطراف، كانت بها ماكينات غسيل الكُلى.
وإذا أردت أن أتحدث عن زراعة الكبد، وذلكم بمناسبة نجاح أول عملية لزراعة الكبد، أُجريت في مستشفى علياء بأم درمان، فلا بد أن نذكر هنا إشارة مدير مستشفى ابن سينا السابق إلى أن هذه الفكرة أي فكرة إجراء عمليات زراعة الكبد جاءت بدعمٍ كبيرٍ من البروفسور مأمون حُميدة وزير الصحة بولاية الخرطوم الأسبق والذي تبنى هذه الفكرة، ثم تبنى رعاية مشروع مركز علاج النزيف المعوي. ودعا البروفسور مأمون حُميدة إلى تطوير هذا المركز لكي يصبح مستشفىً، وتم ذلك بالفعل، بدعمٍ حكوميٍ، وبدعمٍ من رجل الأعمال محمد صالح إدريس. وهذا المستشفى يقف الآن بالقرب من مبنى مستشفى ابن سينا القديم، وهو المخطط، لكي يكون مركز لزراعة الكبد. وكان أول مريضٌ سوداني أُجريت له عملية الكبد، هو الدكتور طه طلعت استشاري أمراض الأُذن والأنف والحنجرة ورئيس نقابة الأطباء الأسبق. وكان قد أجرى تلكم العملية في مستشفى مايو كلينيك بالولايات المتحدة الأميركية، وعاش بعد إجرائها أكثر من ثلاثين عاماً. وكانت تكلفة تلكم العملية باهظة جداً، زادت عن 80 ألف دولار وقتذاك، وقامت بدفعها منظمة التحرير الفلسطينية، وبدعمٍ من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
وأحسبُ أن التغيير الذي حدث على زراعة الكبد، هو أن زراعة الكبد، كان عند إجرائها تُؤخذ كل الكبد من المتبرع إلى المريض، وتُؤخذ هذه الكبد من الذين ماتوا سريرياً. وكانت زراعة الكبد قاصرة على عددٍ قليلٍ من المرضى، لعدم وجود المتبرعين الذين يموتون في حوادث المرور وخلافه، ولكن التطور الكبير الذي حدث، أن زراعة الكبد، الآن يُمكن أن تُزرع جزءٌ من الكبد، وذلكم بأخذ جزءٍ من كبد المتبرع، بحيثُ لا يؤثر ذلك على حياته. ويُزرع هذا الجزء في المريض الذي أُصيب بتليف الكبد، وهذا الجزء الذي زُرع في الكبد، يُمكن أن يتمدد ليصبح بحجمٍ أكبرٍ، ويؤدي وظيفة كاملة للكبد. وهنالك عددٌ من المرضى تمت لهم هذه الزراعة في أوروبا وأميركا.
والآن، جراحة الكبد لا نستطيع أن نقول إنها جراحة مستعصية، بل يُمكن للطبيب أن يتعلمها بسهولةٍ ويُسرٍ، ويُمكن أن تؤدي إلى شفاء عددٍ كبيرٍ من المرضى الذين يعانون من تليف الكبد، وأمراض الكبد المزمنة.
أخلص إلى أن هذه من الإنجازات الطبية المهمة، رغم تكلفتها العالية، ولكن مفيدة، ومن المهم أن تكون موجودة في البلاد، ولها فوائد عديدة منها:
أولاً: توطين بعض العلاجات التي يضطر المرضى إلى السفر للخارج، وهذا توفير للموارد المالية للسودان.
ثانياً: هي مهمة لتدريب الأطباء الصغار والأطباء المتدربين.
ثالثاً: هي بالنسبة للجامعات والأبحاث، نوعٌ من العلاجات التي يُمكن أن تدعم التعليم الطبي في السودان.
وينبغي أن نفهم، أنه ليس هنالك معارضة بين تطوير هذا النوع من العمليات والعمليات التي نقول إنها على المستوى الثالث الطبي، كما أنه ليس هنالك تعارضٌ بين اهتمام الدولة بهذا النوع من الجراحات، واهتمام الدولة بنشر الرعاية الصحية الأولية.
وفي خواتيم هذه العُجالة، أدعو الدولة والمستثمرين في القطاع الصحي إلى ضرورة بذل المزيد من الاهتمام بعلاجات نقل الأعضاء البشرية في السودان، في سبيل توطين العلاج في الداخل.