.. عندما رمى الشيخ الراحل الدكتور “الترابي” بمصطلحه الجديد للساحة السياسيةوالذي أسماه ( المنظومة الخالفة المتجددة) اتجه كثيرون إلى اعتبار ذلك من بنات أفكارومصطلحات “الترابي” التي اعتادوا سماعها عنه والتي كان منها مصطلح التواليالسياسي الذي استشهد مع مفاصلة الإسلاميين الشهيرة في العام 1998م .. ولكن الرجلأبدى اهتماماً كبيراً بفكرته هذه لدرجة تفرغه الكامل للتنظير حولها ومحاولة إفساحطريق لها وسط تراكمات الحالة السياسية السودانية بكياناتها التنظيمية المختلفةوتكويناتها القبلية المتشعبة الرابطة والمحددة لكل حركة المجتمع السوداني بتاريخهوحاضره بل ومستقبله المنظور في غياب مؤشرات واقعية بتغيير سريع يغير من هذهالخارطة المعقدة، ولكن بعناده الذي عرف به في تنفيذ أفكاره حتى وإن أخذت من سعةالزمن ما أخذت ظل هذا الشيخ إلى آخر أيامه يبشر بهذه المنظومة الخالفة المتجددة إلاأنه ولشيء في نفسه لم يخرج كامل الفكرة على نحو جلي لمن حوله، وإن وضع هيكلهاوجوهر ما تعنيه أمامهم وربما كان هذا بسبب رغبته في ضمان نجاحها دون ترصد منالآخرين لها ، وكذا رغبته في مشاركة الآخرين في بنائها حتى يحوز قبولهم ويضمنتبنيهم لها،كما يضمن ولادة التجربة بمعطيات منطقية تتم قراءتها وفق النسق القدريللحركة السياسية لذا فلم توغل ورقة المؤتمر الشعبي التي قدمها في مؤتمر الحوارالوطني باسم المنظومة الخالفة المتجددة ما يفصل لفكرتها على الدقة الحاسمة بما أوجداستشكالاً على من حاولوا من بعد الشيخ الترابي الترويج لها .. وإن كانت الفكرة فيالإشارة إليها تبدو بسيطة في شكلها إلا أنها عميقة في تداخلاتها الموضوعية ، إذتتحدث عن وحدة لتيار وطني عريض تجمعه المواطنة ولا يفرقه الدين، ينهض بأبناءالوطن الواحد جميعهم لبناء وطنهم في كافة أوجه حياته السياسية والاقتصاديةوالثقافية بل وحتى الرياضية والفنية والترفيهية وبالرغم من بساطة هذا التكوينالتعريفي للفكرة إلا أنها اختلطت للبعض خاصة عند من مثلوا دائرة الشيخ “الترابي” الخاصة من أنصاره فعرفوا هذا الكيان الوطني الذي تنادي به المنظومة الخالفة المتجددةلشيخهم بأنه يضم كل الكيانات الإسلامية التي تشمل المتصوفة وأنصار السنة وأهلالإسلام السياسي وغيرهم من التيارات الإسلامية بالساحة، ولكن “الترابي” نفسه يقولبعدم إقصاء الفكرة لأحد لخلفيته العقدية ولكنه وإن غض الطرف عن ما قال بذلك فربمارأى بأنه وحال انتظام التيار الإسلامي العريض في هذه المنظومة فإنه وبطبيعة الحالسينشأ وبالمقابل تيار آخر يعرض فكرة اليسار لتكون واجهته الصريحة في مقابل ذلكالتيار الإسلامي العريض، وهنا يكون المسرح السياسي السوداني قد تشكل علي نمطوتجربة الديمقراطيات الحديثة في كبريات دولها كأمريكا وبريطانيا وفرنسا بوجودحزبين كبيرين يتبادلان السلطة أحدهما يميني التوجه والآخر يساري النزعة، وأعتقد أنالراحل “الترابي” كان هذا هو ما رمى إليه وهو الوجه الذي يوشك الآن أن يتحقق إذا مااستمر اليسار السوداني في الاصطفاف جبهة واحدة ضد التيار الإسلامي العريضالذي يقدم الآن لفكرته عبر مبادرة الشيخ الطيب الجد ودبدر وهي المبادرة التي مثلت بحقتخريجاً ذكياً علي نحو مدهش اذ لم يكن من المنتظر ان تنجح اية واجهة أخري فياستقطاب كافة التيارات الاسلامية حتي السلفية منها وذلك لوسطية آل بدر التي عرفوابها وان كان لسوء التقدير الذي لازم أداء الفاعلين في المشهد المتحرك بسخونته مناليساريين قد ساعد بفعالية وقوة في اصطفاف التيار الاسلامي العريض وهو ما يجليحقيقة ستظل تاريخية تؤكد أن اليسار بذاته كان له دور كبير في ذلك بل وله الدورالحاسم في ذلك وهو أمر يكاد وصفه بالغباء اذ لم يكن من المنتظر ان يرجو اليسارالعريض من استفزاز الاسلاميين هكذا بكل كياناتهم دونما استثناء خير او أية فائدة له والنتيجة كانت تخويف الاسلاميين كلهم للحد الذي دفعهم لمناصرة بعضهم البعض ثمالاقتراب أكثر من بعضهم البعض الي أن وصلوا الآن الي وحدة هيكلية جمعتهم في تياراسلامي عريض بات حظه كبيراً في ، هذا بالطبع في المحافظة علي تماسكه وراتساعهليترسخ بوجود الاتحاديين وحزب الأمة بأجنحته المشاركة والتيارات السلفية والصوفيةوكذا تيارات الإسلام السياسي وذلك في مواجهة ذلك التيار اليساري العريض الذيسيتقدم بدوره ليضم كافة الأحزاب والكيانات اليسارية وعلي رأسهم الشيوعيين الذينيبدون الآن ممانعة للانضمام للآخرين الا أنهم سينضمون الي هذا المعسكر علي نحوحتمي عند وصول القطار الي محطة الانتخابات وسيسعون بالتاكيد للسيطرة عليهوقيادته ليتضح للجميع حينها بأن المنظومة الخالفة المتجددة التي نادى بها “الترابي” قد تحققت الآن بالفعل و أن اهم حقيقة فيها أنها ليست كياناً واحداً بل كيانين يمثلانجناحين في جسم واحد هو هذا البلد السودان .. إذا حدث هذا وحتماً سيحدث فستكونالمنظومة الخالفة المتجددة ل”الترابي” قد تحققت وعندها سيكتب التاريخ بأن رجلاً منقبره يدعى “الترابي” قد صنع بفكره المتقدم وحنكته السياسية الذكية آلية الممارسةالسياسية الحديثة في السودان عبر تبادل سلمي يشارك فيه جميع مواطنيه بأفكارهم ورؤاهم الفكرية والسياسية المتعددة وهو أمر سيضع السودان بتطوره السياسي هذا فيريادة التجربة الديمقراطية العربية والافريقية بحيث يكون قد نقل تجربة كل الجنوبالبشري المتخلف في ممارسته السياسية الي مرحلة النضوج الذي يحقق التداولالسلمي الديمقراطي للسلطة ..