فنان مطرب من أبناء دنقلا أقام حفلاً في الكلاكلة استمعت إليه من سرير الحوش المظلم! هبطت إيقاعاته على أعماقي المضطربة فرتبتها!
*.
غنى باللغة النوبية الدنقلاوية، وبصعوبة شديدة فهمت شيئآ.. غنى إحدى أغاني الشاعر نور الدين سيد علي وهي أغنية قديمة “يا سلام..” اشتهرت على يد الأستاذ الفنان زكي عبد الكريم.. وغنى أغنية أخرى يمجد جمال دنقلا.. هذا الشاب حنجرته واعدة في جوفها أجواء نغم ملونة؛ فنان مطبوع ينفعل بكلمات الأغنية قبل مستمعيه، ورغم أن جمهور الحفل ما كان يريد سوى الرقص على أنغام الوتر المكهرب إلا أنه قدم عملاً جاداً لم يكن للتجارة فقط!!
*.
الملفت أن خطته الإيقاعية المعتمدة على الوتر المكهرب كانت قائمة على إيقاعات الشمال النوبي، لهذا؛ ربما لم يكن مناسباً الإعتماد على التصفيق من قبل صفوف الشباب الدائرية.. وهي رقصة أقرب لإيقاعات الطمبور وهي بيئة “المحس، الدناقلة المستعربة، والشايقية” ولكن ذهنية بعض النسوة الناضجة استجابت بطريقة صحيحة لإيقاعات “الطار” التي تبعثها آلة الأورقن.. استجبن برقصة حلفا الجماعية الريفية مع إيقاعات الطار المكهرب ” والطار” هنا ايقاعاته سخنة وليس ذلك الجلد المشدود الذي تعودنا عليه!
لهذا؛ يمكن القول أن الأورقن ليس آلة موسيقية فحسب بل تؤدي مهمة فرقة كاملة وأعادت للطار النوبي مجده بأقوى مما كان!
*
الثقافات واللهجات النوبية تتلاقح على نار هادئة.. مثل أغنية بالدنقلاوية على وعاء لحني قديم لأغنية أسمر اللونا وهي من فنون الكلكية.. وكذلك أغنية عديلة الشهيرة.. ومعلوم أن سيطرة الدناقلة والكنوز على النيل تركت بعض مفرداتها القديمة حية إلى يومنا هذا في ثقاقة الشمال..
*
في كل الحقب التي مرت على الإمبراطورية النوبية كانت هناك مراكز.. مرة تزدهر عاصمتها في النوبة السفلى وفي حقب أخرى تنتقل المركزية إلى المنطقة الوسطى في جبل البركل ثم تعود وتنتقل العاصمة إلى منطقة وادي حلفا ثم بعد انهيار نوباتيا تنتقل إلى المقرة في دنقلا ثم في عصر الخديوية تعود العاصمة إلى وادي حلفا وبعد إغراق المركز تنتقل العاصمة مرة أخرى إلى دنقلا..
دنقلا التي غابت طويلاً منذ انهيار العرش النوبي في القرن الرابع عشر تعود مع ستينيات القرن السابق إلى الحضن النوبي..
وهي الآن تتفاعل بقوة مع الثقافة الشمالية وسيد هذا التفاعل هو الجزء الشمالي من دنقلا ، ويمكن تسميتها منطقة الجزر “قطاع أرقو”.. من دلقو إلى مقاصر اشتهرت بالأدب والفن والغناء.. عدد هائل جدا من الشعراء والكتاب ألقى بهم قطاع أرقو الدنقلاوي.. وربما سببه الإشعاع الحضاري القادم من الشمال وخصوبة أرض الجزر.. لم يقتصر قطاع أرقو مساهمته في تغذية الثقافة النوبية بل امتدت للثقافة السياسية القومية..
كانت لهم الريادة في قيام السودان الحديث في ثورة 24 ولهم الريادة في الترويج للقومية السودانية (منقو قل لا عاش من يفصلنا) ولهم ريادة حتى في العمل الأدبي من حمزة الملك طمبل استمرت سلسلة المبدعين إلى هذه اللحظة التي نرى فيها الشعراء جلال عمر، نور الدين سيد أحمد، فريد مكاوي.. وإصدارات جديدة لخالد بركية وزوجته إكرام ، وطبق، وغيرهم وغيرهم آخرهم هذا الفنان الصغير الذي أيقظ فينا هذا التاريخ بحنجرته الواعدة..
هذه المنطقة هي قطاع الأدب والفن في دنقلا؛ أما القسم الجنوبي قاد في العهد السناري النهضة الدينية وانتجت ” التصوف السوداني” والوسط هو إدارية سياسية فيها بقايا قبائل حكمت دنقلا مثل المماليك والكنوز وعرب الجوابرة وغيرهم..
*
هذه الروح النوبية الجامعة هي أبرز ما قدمتها ثقافة الشمال الدنقلاوي وأما هذا المطرب الفنان أراد أم لم يرد بأغانيه وإيقاعاته حمل لنا هذه الرسالة فالتحية له وللعازف المتفرد باسل..