د حيدر معتصم يكتب :  حوارات حول الأفكار… (112)  خطأ التوصيف و أثره..(2)

 

عندما تواجه الإنسان مشكلة ماء فإن قدرته على إيجاد حلول لهذه المشكلة تعتمد بشكل أساسي على مدى إهتمامه بإيجاد حلول ناجعة و مستدامة لهذه المشكلة و الإهتمام بأي مشكلة عادة ما يتحول إلى قلق و غالبا ما يتحول القلق إلى طاقة إيجابية في عقل الإنسان تقهر المستحيل من أجل الوصول إلى الأهداف و الغايات إعتمادا على ما يمتلكه  من إرادة و دوافع فيتحول تلقائيا القلق إلي رؤيا و الرؤيا دائما حالة هلامية سريعا ما تتحول إلى تصور و التصور إلى فكرة و الفكرة إلى تجربة و التجربة إلى نتائج خاطئة أو صائبة… هب أن إنسان واجهته مشكلة ماء و هو مهتم بها و له دوافع قوية لإيجاد حلول لها فإن إهتدائه للحلول إذن يعتمد أساسا على نظرية التجربة و الخطأ وما تفرزه تلك التجربة من نتائج، فعباس إبن فرناس مثلا حينما فكر في الطيران كان ينظر إلى السماء و ما به من مخلوقات طائرة و هذا النظر تحول عنده إلى حلم بالطيران و تحول الحلم إلى إهتمام ثم قلق إيجابي  فتحول القلق إلي رؤيا ثم تصور ثم تجربة كانت هي البداية الخاطئةالتي تطورت بعدها التجارب ليصنع الإنسان على إثرها المنطاد ثم الطائرة فالصاروخ ثم المركبة الفضائية و هكذا… كل هذا الإنجاز يعتمد بشكل أساسي على الأحلام و الإهتمام ثم القلق ثم الرؤيا ثم التصور الذي يتحول إلي تجربة والتجربة تعتمد بشكل محوري في الوصول للأهداف على التجريب المستمر و التوصيف الصحيح هو الطريق الوحيد إلى إيجاد حلول صحيحة و العكس صحيح و تعتمد هذه العملية بشكل جدي على المثابرة و قوة الإرادة و حينما يصل الإنسان تنفتح له مباشرة مغاليق الحلول بإعتبار أن التوصيف السليم هو الخطوة الأولى لوصول الإنسان إلى مايريد تحقيقه من أهداف.
إعتادت النخب و الناس عموما في السودان على توصيف الأزمة أو تعريف ماتعيشه البلاد من مشكلات مختلفة على أنه أزمة سياسية و هذا هو الخطأ التاريخي الفادح الذي ظل السودان يدفع ثمنه على مدى يقترب من عقده الثامن فحينما نقول ان الأزمة في السودان هي أزمة سياسية فإن الإهتمام و القلق الإيجابي و الرؤى و التصورات و الأفكار و التجارب دائما ما تدور الحلول في فلك السياسة و ما يمتلك العقل من معلومات في إطاره السياسي و يظل العقل في بحثه عن الحلول أسيرا لتلك الدائرة الضيقة من المعلومات و تلك الدائرة الضيقة من الفاعلين في مشهد البحث عن الحلول و يتحول بقية الناس إلى مجرد كومبارس للسياسة و السياسيين و تصبح المشاكل الأخرى غير السياسية غير موجودة أو غير ذات أهمية أو هي رهينة تنتظر الحلول السياسية فينحرف العقل بذلك عن قضايا ملحة أخرى غير قابلة للتأجيل إلى رهائن عند الحلول السياسية يصبح بعدها من يموتون كل يوم بالمستشفيات بسبب نقص الدواء إلى أرقام ليست ذات أهمية و تزداد أرقام من يصابون كل يوم بأمراض الإيدز و الفشل الكلوي و السرطان و أمراض القلب و السكري و الضغط و غيرها من الأمراض حتى تصل إلى أرقام قياسية تصبح ليست ذات أهمية إلا في إطار إستخدامها كفزاعة للنيل من الخصم و من أجل إستعجال الحلول السياسية و كذلك الحال بالنسبة  للأعداد المهولة من الأسر التي تدخل كل يوم في دائرة الفقر و مايولده ذلك الفقر من مشكلات تنعكس بشكل مباشر على إستقرار الأسرة و الوطن في عدد الفاقد التربوي من الأطفال و تزايد حالات الطلاق  لتصل إلي سبعين ألف حالة في العام بمعدل حالة طلاق كل ثمانية دقائق و تزايد حالات الإدمان و الأمراض النفسية و دعك من المشاكل الأمنية الداخلية و إختراق الأمن الوطني و التدخلات الدولية و الإقليمية و نهب ثروات البلاد و مقدراتها و تاريخها و لك أن تعدد ما تشاء من المشكلات مما يشيب لها الرأس و كل هذا الكم الهائل من المشكلات المؤجلة بإعتبار أن المعركة الآن معركة سياسية و هذا التأجيل على طول هذه السنوات هو الذي أفرز هذا التراكم الأزماتي الذي يعيشه السودان و الذي أصبح يهدد بشكل مباشر وحدة البلاد و إستقرارها.
حينما نوصف و نُعَرِف الأزمة في السودان بأنها أزمة فكرية فإننا  نحاول البحث عن البدايات الصحيحة للمشكلة في إطارها النظري الذي ترتكز عليه بشكل محوري التوقعات المفترضة  لحلول مستدامة قادرة على تجاوز الأزمة و العبور بها لآفاق و مربعات إيجابية جديدة و متقدمة، ،  و لذلك تظل المعركة الأساسية في السودان لإيجاد مخرج من الأزمة هي معركة توصيف و تشخيص للمشكلات المختلفة عبر مؤسسات و مراكز بحثية متخصصة تنشأ خصيصا لهذا الغرض لتقاوم الجهل و تعالج الكثير مما يكتنف الساحة من عشوائية في توصيف و تعربف المشكلات و ضبط المصطلحات و ما أحوجنا في هذه اللحظة الفارقة و المفصلية من عمر الوطن إلى قاموس إصطلاحي وطني جامع يعبر عن الرؤية الوطنية الكلية النابعة من المكونات الحضارية المرتبطة بالهوية الثقافية السودانية الضاربة في أعماق التاريخ على مدى إثني عشر ألف سنة و هو تاريخ مليئ بالإشراقات ذات البصمة الظاهرة على مستوى العالم قديما و حديثاً.
وفقا لما يعيشه السودان من مخاض عسير و لحظة فارقة في تاريخه الحديث فإن التحدي الأكبر و المعركة الأساسية في إطار البناء الوطني هي معركة إعادة توصيف المشكلات المختلفة عبر مؤسسات بحثية وطنية متخصصة تضطلع برسم و توصيف البدايات و تشخيص المشكلات المختلفة في إطار وطني كلي مقاوم للتيارات الإستئصالية و متجاوز للحلول التجزيئية المرتبطة بالصراعات الحزبية  الطائفية و الأيدلوجية التي ظلت تجثم على صدر البلاد على مدى يقترب من عقده الثامن ظل السودان فيها تائها يفتقر إلى وجود و نشوء أحزاب و مكونات سياسية قادرة على تأسيس وبناء دولة سودانية قائمة على أساس الهوية الثقافية المشتركة و يرتكز على مشروع وطني جامع قائم على الهوية الثقافية الوطنية و حينما نتحدث عن الهوية الوطنية المشتركة فإننا نبحث عن الإجماع حيث لا مجال للحياد أو الإستقلالية ( أنا محايد.. أنا مستقل) كما هو الحال حين الحلول الأيدلوجية التجزيئية و هذا بالطبع لا يعني رفض الأحزاب أو الأيدلوجيا و لكن يعني إعادة الترتيب و التموضع بجعل اليد للعليا للأجندة الوطنية التوافقية و من ثم إعادة توصيف المشكلات المختلفة وفقا لتلك الأجندة الوطنية التي لها القدرة على تحويل الصراع الأيديولوجي الضيق إلى تنافس وطني واسع و تحويل الخلاف إلى إختلاف يفضي إلى حوار معافى يعلى من قامة الوطن على قيمة الأيدلوجيا و الطائفة و الإنتماء الحزبي الضيق…
إذا كان توصيف الأزمة في السودان على أنها سياسية هو توصيف خاطئ إذن فما هو التوصيف الصحيح لتلك الأزمة المتطاولة… نواصل.

Comments (0)
Add Comment