د.محمد الهادي الطيب يكتب: قراءات في دفتر الثورة و التغيير (2)

ما من جدال في ان الداعين إلى أبعاد العسكريين عن الحكم ، بهذا النهج الطوباوي، إنما يغالطون أنفسهم إذ ان العسكريين قد اكتسبوا شرعيتهم من الجماهير حين كان الشارع يعج بالملايين من الثوار ،وليس ببضع آلاف ، وحين كان الشارع موحدا رافضا الانتماء لأي حزب ، و يومها لم يكن  ل(قحت ) اي دور في الشارع اكثر من دور المنسق الذي يحدد مواعيد التظاهرات ونقاط تجمعها وانطلاقها، وهو امر مختلف جدا عن قيادة الثورة وتوجيهها …وحين توجهت الجماهير إلى القيادة العامة داعية الجيش لانهاء حكم الانقاذ كان ذلك ميلاد شرعية ثورية له ، أي للجيش ، عبر المشاركة في انجاز أخطر مراحل الثورة … كما مثلت تلك الدعوة  اعترافا بدور سياسي للجيش و قدرته على التأثير في مجريات السياسة ، ثم مثلت المفاوضات معه، بشأن تكوين السلطة الانتقالية ، تكريسا وترسيخا لدور سياسي للجيش يقر به كل  المكون المدني والثوار…تلك الشرعية المكتسبة عبر المشاركة الفاعلة تقابلها شرعيات ثورية لبعض المكونات المدنية التي لا يعرف لها دور واضح ومحدد في التحضير للثورة او قيادتها سوى الدور الذي ذكرناه انفا..اذن يصبح من العبث ان تحاول بعض أطراف المكون المدني الدعوة لابعاد الجيش بدعوى انه قد قام بالانقلاب على الثورة  و قتل الثوار ، متناسين ان المدنيين قد فاوضوا هذا الجيش بعد مجزرة فض الاعتصام ،ولم تجف دماء الشهداء بعد، ومن ثم شاركوه في ادارة البلاد و اوكلوا له بعض اخطر مهام الحكومة مثل الملف الاقتصادي وملف السلام … يومذاك لم تكن تمنعهم تلك الدماء التي سالت من ان ينغمسوا في الشراكة السياسية مع الجيش ، لكن يمنعهم الان من مفاوضة العسكر مجرد خلافات على قضايا اقل أهمية وخطرا من تداعيات تلك المجزرة ، الأمر الذي يلقي بظلال كثيفة من الشك المبرر على سلوك قحت في كلا الموقفين من مبدا التفاوض !!!  و هم يطالبون بالتحقيق والمحاسبة لدماء سالت بعد قرارات ٢٥ أكتوبر وبتجاهلون ان  دماء أخرى  سالت أثناء الثورة  و ان دماء كثيرة  ،أيضا،  جرت في ليلة فض الاعتصام ولم ينته  التحقيق فيها ، مجرد التحقيق وليس المحاسبة ، برغم وجود لجنة قانونية تعمل منذ عامين مضين الأمر الذي يدفع للقول ان دماء الشهداء عادت مجرد أداة مناورة لا أكثر وهو امر يعيد طرح سؤال قاس حول مدى جدية قحت في الالتزام بصف الثورة و مطالبها الملحة وقضاياها..
أعود من هذا الاستطراد للقول ان اي محاولة من قحت لاقصاء العسكر ستقودنا للسؤال : بأي شرعية يتحدثون؟ هل بشرعية الثورة التي يتشاركها معهم العسكر ،ام بشرعية الجماهير التي ترفض الاحزاب وسبق لها ان اذلت قادة تلك الاحزاب وطردتهم من صفوفها في الشارع الثائر…
أعتقد أن ما يحرك قحت في مواجهة العسكريين هو الرعب من كلمات ثلاث وردت في خطاب البرهان : اولاها حكومة (تكنوقراط) وهذا يرعب القحاتة لجهة انه سيبعدهم عن مراكز اتخاذ القرار  كما أنه سيكشف مدى اختلافاتهم  و عجزهم عن الاتفاق على حكومة بسبب تهافتهم على مصالحهم الضيقة..
والكلمة الثانية التي تبث رعبا منهكا واحباطا في قلوب أهل قحت هي الاصرار على نهاية الفترة الانتقالية في موعدها ،اي بعد ( عام واحد فقط ) بحسب خطاب البرهان، بينما يتمدد بصر قحت واشواقها إلى مدة انتقالية غير محددة او لفترة زمنية طويلة ، يعيدون فيها إنتاج خيباتهم وجني مزيد من الحصائل والحصائد والفوائد ، و لكن سيكون صيدهم الاثمن والأهم ، في تلك الفترة الانتقالية الطويلة ، هو تصميم نظام انتخابي ، وفقا لقانون ولوائح واجراءات ، تضمن استئثارهم بسلطة مطلقة لن يسلمونها الا لعيسى ، على نهج سلفهم وامام ضلالهم السياسي ، نظام الانقاذ !!
اما الكلمة الاشد ترهيبا لهم فهي كلمة ( الانتخابات)  وخوفهم منها مفهوم وواضح إذ ان المكافئ الموضوعي للانتخابات هو انتهاء عهد الشرعية ( الثورية) الاستثنائية ، التي تبرر وجود قحت في السلطة  ، لصالح عهد جديد هو عهد الشرعية (الدستورية) وهي الشرعية الطبيعية  التي تمثل الجماهير تمثيلا حقيقيا لا تنوشه الظنن ولا الادعاء..
و من بعد ذلك فان دفوع قحت في اعتراضها على قيام انتخابات تفضي إلى استقرار سياسي  ، حتى لو كان استقرارا نسبيا ، تبقى مجرد محاولة لازالة الحرج السياسي الذي يحاصرها بسبب اصرار و مثابرة المكون العسكري على إنهاء الفترة الانتقالية في موعدها المحدد واجراء الانتخابات ، الأمر الذي دفع الى الواجهة بمفارقة لم تحدث في تاريخ السياسة : اذ يطالب العسكريون بإجراء الانتخابات وصولا لحكم مدني ديموقراطي بينما يهرب المدنيون من ذلك الاستحقاق ، الأمر الذي يثير حالة من السخرية و المرح السياسي المصحوب بالاستهجان والاستخفاف بقحت وقياداتها.. وهم حين يبررون لذلك إنما يخبطون خبط عشواء : ففي البدء قالوا ان الانتخابات ستأتي بالكيزان وهو قول يكشف عن ضحالة فهم للمشهد السياسي ما بعد الثورة، لكن الأهم من ذلك انه يكشف عن عدم ايمان بالديموقراطية ثم يكشف عن عدم ثقة في قدرة وثورية الشارع الذي أسقط  الكيزان وهم في الحكم عن ان يسقطهم في انتخابات ديموقراطية.. ولما كان تبريرهم ذاك موضع رفض وتندر انتقلوا لحلقة أخرى من حلقات القول الجزاف حين اشاروا إلى أن الحرب تمنع قيام الانتخابات ، ولكن أين هي الحرب الأن ؟ كانت الحرب تدور  في الجنوب ومع ذلك تم إجراء انتخابات ١٩٥٥ وانتخابات ١٩٦٥ وانتخابات ١٩٨٦ في منطقة الحرب و اختار فيها أهل الجنوب ممثليهم وذلك لسبب بسيط هو ان خارطة التوزيع السكاني تحتم وجود مراكز الاقتراع داخل المدن والمجالس الريفية الكبرى وما حولها من  القرى والتجمعات السكانية وهذه تشمل الاغلبية الغالبة من المواطنين.. يتصل.

 

Comments (0)
Add Comment