علي الحاج .. من منواشي إلى بون والخرطوم … سنوات الآلام والأحلام – صديق السيد البشير*

 

(1)
خمسون عاما ، أو قد تزيد ، أمضاها الدكتور علي الحاج في بلاط العمل السياسي والتنظيمي ودهاليز الطب البشري وأقبية الفكر الاسلامي ، أحدث في كل مجال جلبة كبيرة ما يزال صداها راسخا في ذاكرة المراقبين للشأن العام في السودان ، أبصر علي الحاج نور الدنيا في أخريات الثلاثينيات من القرن المنصرم بمنطقة منواشي ريفي مدينة نيالا بدارفور (غربي) السودان ، متنسما هواء نيالا البحير في أيام العز والأحلام المشروعة ، في كنف أسرة تتمتع برغد العيش ، لوالد يعمل بالتجارة في نيالا ولوالدة إنتقلت للرفيق الأعلى وهو لم يتعدى عمره أربعة أشهر، في ذات المدينة التي تتقلب منذ سنوات بين جحيم الحرب ونعيم السلام ، حيث تلقى أبجديات العلم والمعرفة والدراسات الأكاديمية ، تحديدا المرحلتين الأولية والوسطى ، غادر الحاج دارفور ميمما وجهه شطر إقليم كردفان الغرة (أم خيرا جوه وبره) إلى مقاعد التعليم بمدرسة خور طقت الثانوية في أيامها الذهبية ، حين كانت المدارس الثانوية تعد على أصابع اليد الواحدة أو أقل ، مثل حنتوب (الجميلة)، وادي سيدنا وغيرها ، بيد أن الأقدار لم تكتب له البقاء في مقاعد الدراسة تحصيلا ومعرفة ، أقصي من كشوفات الطلاب المنتمين لمدرسة خور طقت ، وتعود أسبابه إقصائه هي تهمة الإنتماء السياسي للحركة الاسلامية (وقتذاك).
(2)
حزم علي الحاج حقائبه ، ميمما وجهه شطر العاصمة السودانية الخرطوم ، طالبا بمدرسة المؤتمر الثانوية ، ذات المدرسة التي ساهمت في تخريج مئات الطلاب الذين رفدوا الساحة السودانية في مجالات شتى ، طبا وحقوقا ورياضة واقتصادا وهندسة وغيرها من المعارف المختلفة ، تمرالسنوات ويزداد علي توهجا في النشاط السياسي والفكري والعلمي والتنظيمي ، تحديدا في جامعة الخرطوم (الجميلة ومستحيلة) بكل ألقها ، حياة طلابية زاهية برغد العيش ومجانية التعليم ، واضعا قدميه على مدرجات العلم والمعرفة ، نحو قاعات كلية الطب والتي فصل منه مرة ثانية بدايات الستينات من القرن الماضي ، وبذات التهمة ، تهمة الإنتماء إلى التيار السياسي المعارض لنظام الحكم (آنذاك) ، إبان عضويته لإتحاد طلاب جامعة الخرطوم ، أو ما اسمي باللجنة التنفيذية (وقتها). عاد إلى مقاعد الدراسة مرة أخرى بين عوالم المعرفة الطبية ، تنظيرا وتطبيقا مع السماعة والمبضع ، وفي النصف الثاني من ستينيات القرن المنصرم حمل علي الحاج شهادة البكلاريوس من طب الخرطوم ، إلى دنيا العلم العمل ، مزاوجا بين الطب والسياسة والفكر الاسلامي والتنظيمي ، مارس عمله طبيبا بعدد من مدن السودان ، ومتخصصا في أمراض النساء والتوليد من جامعات الإنجليز دأب اخوانه رفقاء الدرب والمسيرة والفكرة والمنهج ، وقبل ذلك ، يعد علي الحاج مؤسسا مع آخرين لما اسمي (جبهة نهضة دارفور) حدث ذلك في ستينيات القرن الماضي.
(3)
ولأن الرجل يحمل في دواخله كما يقول المقربون منه حب العمل التنظيمي والولاء المطلق لحركة الإسلام السياسي في السودان ، كان نقابيا بالجمعية الطبية السودانية، ثم وزيرا بإقليم دارفور في حكومة أحمد ابراهيم دريج، إلى أن آثر علي الحاج الإلتحاق بمكتب الجبهة القومية الإسلامية في مرحلة ما قبل مجئ (اخوانه) إلى سدة الحكم في البلاد عام تسعة وثمانين تسعمائة وألف للميلاد ، وفيها التقي بمبارك قسم الله وأحمدالرضي جابر وآخرين ، حيث أدى دورا كبيرا في المكتب المذكور ، في تجربة رغم إختلاف الناس حولها قدحا ومدحا.
توسعت حركتهم الإسلامية ، وجندت آخرين في مجالات عديدة ، تمهيدا للإنتقال من دولة الفكرة إلى الحكم ، ذلك الحكم الذي صمد لثلاثين عاما من عمر السودان رغم المظاهرات والحروبات والإنشقاقات والأزمات الأمنية والإقتصادية والسياسية والمحاولات الإنقلابية.
قبل ذلك تفرق (اخوان الصفا) إلي أفراد وجماعات ، رغم أوجاع البلاد وإنقسامها في عهدهم الى دولتين ، لم تنعما لا بالأمن و لا بالاستقرار ، عاش علي الحاج متقلبا بين نعيم الإستوزار سنين عددا ، بين منظمات الاغاثة الإسلامية والتجارة والصناعة والإستثمار والحكم الإتحادي، إلى قيادته لأول وفد حكومي للتفاوض مع الحركة الشعبية لتحرير السودان ، وإلتقى بزعيمها الراحل دكتور جون قرنق ، رغم رفض الأخير لمفاوضته ، وما خرج للناس من تسريبات عرفها بعد ذلك القاصي والداني.
(4)
هو ذاته علي الحاج الذي يعتبره الدكتور عبدالرحيم عمر محي الدين : (من القيادات التاريخية الجريئة والشجاعة للحركة الإسلامية الذي افتقدته شؤون السودان السياسية، كما فقده السلام والوحدة في السودان حيث أصبح لاجئا سياسيا في ألمانيا).
ينتمي الحاج إلى ثلة من شركائه في الفكر والسياسة والإنتماء والثورة والحكم ، الذين زاوجوا بين الإشتغال بالسياسة والطب ،كغازي صلاح الدين_المفصول لاحقا من الحزب والبرلمان والمفارق للجماعة ، إضافة لبروف غندور والمرحوم مجذوب الخليفة وعبدالرحمن الخضر ومصطفى عثمان وآخرين سقطوا من ذاكرتي المتصدعة بفعل تصاريف الزمان وعاديات المكان.
أحدث على الحاج صدي كبيرا في سنوات سابقة إبان تسلمه ملف طريق الانقاذ الغربي الذي كان مخططا لتنفيذه لأهميته الإستراتيجية وربطه لإقليم دارفور بالعاصمة الخرطوم ، وما حدث من تداعيات يعلمها القاصي والداني ، خاصة بعد إتهامات وجهت له بتديد أموال الطريق بطرق غير مشروعة ، وفي تحقيقات ومقابلات أجريت مع الرجل أطلق قولته الشهيرة (خلوها مستورة) في تحدي كبير وبائن لعموم أهله في السودان حكاما ورعية.
(5)
ملفات كثيرة وخطيرة أوكلت له بحكم تاريخه الطويل في الحركة الإسلامية ويقول عبدالوهاب همت أن الرجل ومنذ إنضمامه اليها في أوائل الخمسينات من القرن الماضي ، أمسك ملفات ضربتها السرية وإكتنفها الغموض ، رغم ما خرج منها للمراقبين في زمن سابق حيث تدرج في هرم الحركة الإسلامية وتسلم عدة حقائب وزارية ، ثم ترشيحه قبل المفاصلة مع آخرين لتولي منصب الرئيس ، المفاصلة التي قسمته وأخوانه الى معسكرين ، وطني ، وشعبي ، أو القصر والمنشية ، إختار الوقوف الي معسكر الشيخ ، إلى أن ضاقت به بلاده وأرضه وحكومته بما رحبت ، حمل عصا الترحال مجددا بعيدا عن الأرض ودولة المشروع والفكرة ، إلى ألمانيا في منطقة يصفها الصادق الرزيقي في مقابلة أجراها مع الرجل في ضاحية «بادغوديزبيرغ» التي تبعد عشرة كيلومترات تقريباً من وسط مدينة بون العاصمة السابقة لألمانيا الغربية، وفي عمارة من أربع طبقات تتكون من عدة شقق سكنية، في الطابق الأول قبالة المدخل الرئيس توجد شقة متوسطة الحجم، يعيش فيها مع أسرته) يمارس حياته بصورة طبيعية هناك في ألمانيا ، يحمل هموم الناس ويتذكر معاناة السكان في البحث عن ملاذ آمن ، وتنمية مستدامة ، وتداول سلمي للسلطة ، وإطفاء فتيل الأزمة المستعرة منذ سنوات حسوما في وطنه الصغير في دارفور ، ربما يحلم الدكتور علي الحاج مع آخرين في غد سوداني أفضل تسوده دعائم الحرية والعدالة والوحدة والمساواة والتنمية والرخاء والاستقرار.
(6)
ما يزال علي الحاج ، يحتفظ في ذاكرته ووثائقه بالكثير من الخفايا والأسرار الخاصة بتجربته في العمل النقابي والعلمي والأكاديمي والفكري والسياسي والتنظيمي مع جماعة نفذت نموذجها في الحكم بمساوئها ومحاسنها ، يحتاج الناس لمطالعة حكاياته القديمة والجديدة منذ الأربعينات من القرن الماضي إلى يومنا هذا توثيقا لتجربة الإسلاميين في الحكم ، مذكرات تفصل في العام والخاص منذ لحظات التكوين الأولي لتنظيمه ، مرورا بسنوات الحكم ومفاوضات السلام وأعوام المفاصلة وشهور الهجرة الى بلاد الألمان إلى أن ألتقى في مهجره الأوروبي أو منفاه الاختياري البعيد بأصدقاء الأمس أعداء اليوم في مقابلات ( السر و العلن ) ولقاءات الشؤون العامة والإهتمامات الخاصة والتي خرجت منها بعض التسريبات لمتابعي الشأن السوداني ، منها أن اخوان الأمس واليوم يريدون إقناع الدكتور بالعودة الى أحضان الدولة والحكومة والحزب ليسهم في إكمال المسيرة القاصدة ، مسيرة التنمية الإجتماعية والثقافية والبناء الوطني لبلد يواجه الكثير من المهددات فهل سيعود الدكتور للأهل والبلد والحكم في موسم الهجرة الى الجنوب ؟!
(7)
و شهد مارس عام 2016م عودة الرجل إلى السودان لأداء واجب العزاء في فقيد السودان والعالم الشيخ الدكتور حسن الترابي الأمين العام للمؤتمر الشعبي (رحمة الله عليه) ، ولم يمكث طويلا إلى أن عاد إلى مهجره/موطنه ألمانيا ، و كان يهدف من ذلك إلى ترتيب أوراق عودته الأخيرة إلى السودان في ذات الشهر عام 2017م ، متزامنا مع إنعقاد المؤتمر العام لحزب المؤتمر الشعبي بالعاصمة السودانية الخرطوم في الخامس والعشرين من مارس عام 2017م ، وأسهم في إحداث حراك في أمسيات السياسة ومنتديات الفكر وبرامج الراديو والتلفزيون والصحافة المكتوبة.
وتمضي الأيام ، لتتغير الأوضاع السياسية والأمنية رأسا على عقب ، وتحولات كبيرة حدثت في المشهد السوداني في بعديه المحلي والكوني ، ثم تشتعل جذوة ديسمبر 2018م في السودان بغض النظر عن جدل التعريف ما بين ثورة أو حراك أو إحتجاجات ، لتطيح هي الأخرى في شهر أبريل عام 2019م بعمر البشير وحكومته بعد ثلاثين عاما من الحكم ، ما أسهم في إعتقال دكتور علي الحاج وآخرين في العشرين من نوفمبر عام 2019م بتهمة الإشتراك في إنقلاب الإنقاذ في يونيو 1989م وتقويض النظام الدستوري ، التهمة أو الفضية التي يصفها في تصريحات سابقة (باالكيد السياسي والإنصرافية) ، توالي الأحداث العامة في السودان قد يظهر معه الكثير من المستجدات في هذه القضية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.
(8)
ينفي د. علي الحاج ضلوعه المباشر في إنقلاب الإنقاذ في يونيو عام 1989م ، يقول في حوار صحفي “إن مسؤوليتي في إنقلاب الإنقاذ كانت التمويه بأن أذهب للخارج ضمن وفد حول قضية الجنوب … ، كانت لدى توجيهات في حال نجاح أو فشل الإنقلاب ماذا أفعل ، … تركت السودان في الثاني عشر من يونيو عام 1989م ، وكان من المفترض أن يكون الإنقلاب يوم الحادي والعشرين من يونيو عام 1989م ، لكنه تأخر اسبوع لظروف ، مع تأكيدات بمعرفة الاسم الحقيقي لقائد الإنقلاب هو عمر حسن أحمد البشير من الترابي قبل وداعه للسفر للخارج” ، لتمضي الشهور بوتيرة متسارعة ، لتشهد الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر من عام 1989م عودة الرجل إلى السودان بقرار فردي بعد تأخره لشهور مضت على الإنقلاب ، وما بين رحلات وسفريات واعتقالات ، هي سنوات الآلام والأحلام يمضيها علي الحاج في غياهب السجون و المعتقلات ، متى يخرج منها ؟! ، السنوات القادمة ربما حبلى بالمزيد ، أليس كذلك ؟!
#صديقالسيدالبشير
#السودان
*مراسل سابق بقناة الشروق الفضائية
*صحافي صحفي سوداني مقيم بالمملكة العربية السعودية

Comments (0)
Add Comment