طالما ظلت الدولة السودانية لا تقوم على أساس مشروع وطني يتوفر له الإجماع والقدر الكافي من العدالة الإجتماعية والمواطنة بلا تمييز فإنها بالمقابل ستجد من يتمردون ضدها على الدوام.*
بلادنا في حاجة ماسة لاصلاحات عميقة بما في ذلك إصلاح إتفاق السلام وإكماله.
حركات الكفاح المسلح ليست كتلة صماء وآن لها أن تخرج من دائرة الاحتجاج إلى دائرة الالتزام ببرامج إجتماعية عميقة وسياسات فاعلة للتغيير وموقف حازم من الشمولية.
*المطالبة بإلغاء إتفاقية السلام سيعمق التناقضات الاثنية والجغرافية، ومراجعتها بموافقة جميع الأطراف يصب في مصلحة الجميع. *
-1-
في جوبا أتيحت لي فرصة الحوار مع إحدى الخبيرات التي أتت بها بعثة الأمم المتحدة في السودان، وهي ضابط سابق في الجيش الكولومبي وشاركت في المفاوضات بين الحكومة الكولومبية ومنظمة (الفارك) أو القوات الثورية المسلحة الكولومبية التي أنهت حرب استمرت لحوالي ٥٠ عاماً في كولومبيا، ولقد سبق لي أن التقيت بعض قيادات منظمة الفارك في برلين. لقد عزمت أن اقوم بزيارة كولومبيا في اكتوبر ٢٠٢٢ ذكرى ميلادي ال (٦٠) ولكن رياح الانقلابات تأتي بما لا تشتهي السفن.
زرت كثير من بقاع الأرض في ما عدا اميركا اللاتينية التي يشدني الحنين لزيارتها فهي أرض ساحرة مليئة بالفقراء والمقاومة والتاريخ والثقافة و(الكارتيلات) وجمهوريات الموز، كما كان يطلق عليها سابقاً في التقليل من شأنها العظيم، وهي ايضاً بلاد المخدرات والشركات العابرة للحدود، وبلاد الواقعية السحرية والعجائيبية، وكولومبيا تضم كل ذلك، فهي مركبة من اشتات الحمض النووي لكل اميركا اللاتينية، جاء منها غابريل غارسيا ماركيز أشهر روائي انجبته أميركا اللاتينية، وبابلو اسكوبار أشهر تاجر مخدرات عالمي، والفارك أشهر منظمة حرب عصابات ثورية قاتلت لخمسة عقود، وتوصلت لإتفاق سلام بعد مقتل قادتها الكبار، مانويل مارولندا وجاكوب ارناس والفانسو كانو.
-2-
أنهى إنقلاب ٢٥ اكتوبر كل منجزات ثورة ديسمبر الهامة أو وضع العراقيل في طريق السلام والاقتصاد والعلاقات الخارجية والحكم المدني الديمقراطي. ومن عجائب الإنقلاب إن معظم الحركات المسلحة إنقلبت على برامجها وشعاراتها المعلنة في الإصلاح الهيكلي للدولة والتحول الديمقراطي، وشارك بعضها في الإنقلاب وفي الدفاع المستميت عن مركز السلطة، وأحياناً بأكثر ضجةً من أصحاب المركز أنفسهم في مفارقة كاملة لخطاب التهميش والمواطنة، وفي تغافل للمستقبل وتناسي لنضالات الماضي وكانما إتفاقية السلام شهادة مواطنة للاندماج في النظام القديم مع قليل من قسمة السلطة وشىء من الثروة لا تصل قطراتها شفاه الفقراء العطشى للعدالة والإنصاف. وتحولت الاتفاقية من آلية سلمية للتغيير إلى عقبة في طريق التغيير ووضعت بعض الحركات نفسها في موقف صريح ضد ثورة ديسمبر المجيدة تلك الثورة التي جعلت من السلام شعاراً مركزياً وأنهت عقود من رفض نظام البشير للسلام العادل، كما فتحت الطريق لحركات الكفاح المسلح للمساهمة الفاعلة في إقامة نظام جديد وتغيير جوهري في مركز السلطة الذي طالما استعصى على حركات الكفاح المسلح هزيمته. وهي التي قد خاضت نضالاً عنيداً وباسلاً ومكلفاً في ريف وهامش السودان، وبدلاً من أن تتحالف الحركات مع الثورة لتغيير المركز القديم تحالفت مع المركز القديم ضد الثورة نفسها.
هنالك إختلاف جوهري بين إتفاقية جوبا للسلام واتفاقية نيفاشا للسلام فيما يتعلق بجنوب السودان والحركات التي وقعت اتفاق جوبا، فاتفاق نيفاشا وفر للقوميين الجنوبيين بديلاً يختصر عليهم الطريق المكلف في نظرهم بأن يناضلوا من أجل تغيير المركز الا وهو حق تقرير المصير، ولذا فان الحركات التي وقعت على سلام جوبا لا تمتلك رفاهية البديل الآخر الذي وفرته اتفاقية نيفاشا والذي جعل من القوميين الجنوبيين لا يهتمون بالتحول الديمقراطي قدر إهتمامهم بحق تقرير المصير، وتواطؤ المؤتمر الوطني الذي كان الحفاظ على مركز السلطة في الخرطوم بالنسبة له أكثر أهمية من وحدة السودان، وتمكن القوميين الجنوبيين من إقامة دولتهم، ولكن حركات الكفاح المسلح في إتفاق جوبا لا تمتلك هذا البديل ولذلك ستدفع ثمن قبولها بالانقلاب لأن اتفاق السلام سيصل إلى محطته الأخيرة وسيبقى النظام القديم. قاد هذا الأمر إلى الحرب في المنطقتين من قبل لأنهما لا يمتلكان حق تقرير المصير وكان عليهما التعامل مع تعقيدات النظام القديم وشراهة وشمولية حكم المؤتمر الوطني.
أسقطت معظم حركات الكفاح المسلح الديمقراطية من حساباتها دون أن تتمكن من حل قضايا جماهيرها التي لا تزال راسخة في تاييدها لثورة ديسمبر المجيدة، وقد خرجت مؤخراً في دارفور والمنطقتين في ٣٠ يونيو الماضي بزخم واسع مما يجعل هذه الحركات كالمنبت لم يحققوا تحولاً في السلطة القديمة وسيتردد الكثيرين في مرافقهتم إن أرادوا العودة إلى مربع ما قبل جوبا، وقد تغافلوا عن النضال لتوسيع مساحة العمل السياسى الديمقراطي كوسيلة للتغيير، وحسناً فعل بعضهم بالحفاظ على علاقاته مع قوى الثورة وتحالفاتها. إن خيارات بعض حركات الكفاح المسلح تبدو مسدودة الأفق.
-3-
مأزق التطبيق:
تتكون اتفاقية سلام جوبا من عشرة أبواب، بدءاً من الديباجة التي تتحدث -للمفارقة- عن إنهاء الشمولية والديكتاتورية واقامة دولة ديمقراطية تنموية، وتؤكد أن قوى الكفاح المسلح قد قدمت الشهداء والجرحى والمفقودين قرباناً للحرية والعدالة والسلام والتنمية، وأكدت الديباجة على تلبية مطالب الثورة! وأن ما يحدث الآن لا صلة له بهذه الديباجة التي لا يتذكرها موقعوها.
إذا تناولنا الباب الأول من الاتفاقية، فهو يتحدث عن القضايا القومية، وهي ٢٩ قضية أهمها الفترة الانتقالية والوثيقة الدستورية ومؤتمر نظام الحكم وإصلاح المنظومة العدلية والتعداد السكاني والانتخابات والقضايا ذات الخصوصية مثل قضية الكنابي والبيئة وشمال كردفان وقضايا المسيحيين وولاية الخرطوم والرحل والرعاة والمزارعين ومكافحة العنصرية والمفوضيات وتقسيم وتخصيص الثروة قومياً وولائياً وقطاع الأعمال والتربية والتعليم والمعاشيين والمفصلوين تعسفياً وغيرها من القضايا، وهي تقع في باب لم ينجح احد! وسقط سهوا! (وسقط بقد القفة)! ولا أحد يذكر هذه القضايا اليوم بموافقة الذين تفاوضوا عليها والذين رفعوا شعار (الليلة ما بنرجع إلا البيان يطلع).
هنالك قضايا الترتيبات الأمنية والإصلاح الأمني العسكري على المستوى القومي، والدمج على مستوى جيوش الحركات كعملية متكاملة وبناء القوات المسلحة السودانية كجيش مهني واحد، وقضايا الارض والنازحين واللاجئين وإعطاء ٤٠% من الثروة من إنتاج الولايات التي شهدت النزاعات لتلك الولايات، والذي لم ينفذ على مدى العاميين الماضيين، رغم أن وزارة المالية تتبع للحركات. إضافةً إلى الأبواب الأخرى من الاتفاقية التي تشمل الحديث عن الفيدرالية والحكم الذاتي، ولم ينفذ من ذلك الا قسمة سلطة شملت أفراد وتوفيق أوضاع بعض الحركات مالياً، وقد تزايد العنف في ولايات النزاع السابقة، والمحير أن قضايا التطبيق قد توارت والضامنين للاتفاق لم تعد لديهم فاعلية وآليات التنفيذ وإشراك الجماهير قد غاب، وهذا يضع الحركات في تناقض مع تاريخها وشعاراتها وتضحياتها وجماهيرها في ظل تزايد الدعوة من منصات متباينة لإلغاء الاتفاق وهي دعوة خاطئة لا تقدم حلول وستزيد من الاحتقانات الاثنية والجغرافية.
-4-
ما حدث في دولة كولومبيا ومراجعة إتفاق السلام:
بدأت الحرب في كولومبيا في ١٩٦٤ وانتهت في عام ٢٠١٦، شاركت في هذه الحرب حركات متعددة اشهرها القوات الثورية المسلحة الكولومبية (فارك/ FARC) ولا يزال جيش التحرير الوطني الكولومبي يواصل الحرب ويفاوض الحكومة حتي يومنا هذا. ولذا فإن وضع كولومبيا شبيه بوضع السودان في عدة نواحي ومختلف عنه كذلك. وقعت اتفاقية السلام في كولومبيا في ٢٤ اغسطس ٢٠١٦ في العاصمة الكوبية هافانا، وطرحت على استفتاء جماهيري للمصادقة عليها بدعم قوي من الرئيس امانويل سانتوس، وصوت ضد الإتفاق ٥٠.٢% وايده ٤٩.٨% وسقط الإتفاق في الاستفتاء عليه، لكن الرئيس سانتوس وقيادة الفارك اتفقوا على القيام بمراجعة الإتفاق وليس العمل على إلغائه، وتمت مراجعته ونصت المراجعة على عرضه للكونغرس للمصادقة عليه بدلا من الاستفتاء، وتمت المصادقة في يومي ٢٩ و ٣٠ نوفمبر ٢٠١٦. وتمثل ذكاء حركة الفارك في أمرين قبولها بمراجعة الاتفاق لكسب مزيد من الرضا الشعبي والحفاظ على القضايا الجوهرية التي عالجها الاتفاق والتي تخاطب جذور الحرب وعلى رأسها الإصلاح الزراعي والعدالة الإجتماعية وقضايا المواطنة وإصلاح أجهزة الدولة وحماية المقاتلين السابقين ودمجهم وتنفيذ الترتيبات الأمنية وتمرير التعديلات الدستورية المتفق عليها والسماح لهم بحرية النشاط السياسي وتعزيز الحكم المدني الديمقراطي ومكافحة كارتيلات المصالح وبناء جبهة عريضة لقوى التغيير، وهى التي أيدت في النهاية مرشح واحد اتي من الحركات الثورية ووقع على إتفاق قبل اتفاق هافانا في العام ١٩٩٠ وينتمي إلى حركة (ام ١٩/M19) وهو غوستافو بترو الرئيس الحالي لكلومبيا الذي فاز على رأس تحالف يساري في ١٩ يونيو ٢٠٢٢، للمرة الأولى في تاريخ كولومبيا.
في كولومبيا وقفت حركات الكفاح المسلح مع التجديد والإصلاح والمواطنة والعدالة الاجتماعية والحكم المدني الديمقراطي والاصلاحات الدستورية والتداول السلمي للسلطة، وهو موقف جدير بحركات الكفاح المسلح في السودان التوقف عنده ومراجعة تجربتها لاسيما من شاركوا في الإنقلاب.
-5-
الموقف من إتفاق جوبا:
الدعوة لرفض والغاء اتفاقية جوبا للسلام في ظل تزايد غضب جماهيري من سلوك بعض قادة الحركات أمر خاطىء في إعتقادي وتجاهل ذلك أيضاً يجعل الاتفاق معزولاً، ونحتاج إلى تفكير خارج الصندوق للحفاظ على اتفاقية جوبا للسلام واستكمالها مع غير الموقعين.
علينا أخذ قضية السلام كقضية إستراتيجية لبناء الدولة السودانية وكأحد أركان المشروع الوطني الجديد وأن نبتعد عن تجارب الماضي المؤلمة، ولا يزال حديث الرئيس السابق جعفر نميري عن اتفاق أديس أبابا بانه ليس بقرآن او إنجيل ماثلاً، الأمر الذي فتح الطريق إلى حرب طويلة منذ ١٩٨٣ إلى ٢٠٠٥. إن نقض المواثيق والعهود أمر يجب أن نتجنبه وأن نتذكر كتاب ذلك القاضي الجليل والوطني النبيل مولانا ابيل الير (نقض العهود والمواثيق).
اتفاقية جوبا للسلام لا تخلو من النواقص أولها قضية المسارات التي عارضناها في جوبا، والنواقص ليست حجة صحيحة لإلغاء الاتفاق بل هي أدعي لاستكماله وللالتزام به ومراجعته مع الموقعين عليه سيما وإن ثورة ديسمبر المجيدة أخذت السلام كقضية إستراتيجية وعامود رئيسي من أعمدة شعاراتها وأخطاء قادة الحركات المسلحة لا ينفي نضال تلك الحركات الباسل ضد نظام البشير. إن اتفاق جوبا اتي بمكتسبات حقيقية لجماهير مناطق النزاعات يجب الالتزام بها وتطويرها لمخاطبة جذور الحروب والعمل على انهائها.
إذا كنا بصدد وضع وثيقة دستورية جديدة وعدم العودة لما قبل ٢٤ اكتوبر وإسقاط انقلاب ٢٥ اكتوبر، هذا يعني بإننا بصدد مراجعة كاملة وايجابية يمكن أن تشمل اتفاق جوبا بمشاركة اطرافه مثلما حدث في كولومبيا لمعالجة الأخطاء وإعطاء الاتفاق زخم جماهيري جديد وربطه بالحكم المدني الديمقراطي وإكماله بتوقيع القائدين عبد العزيز الحلو وعبد الواحد النور مما يسهم في إعطاء السلام عمقاً جماهيرياً جديداً وبعداً شعبياً في ظل تصاعد حملات معادية لاتفاقية جوبا، وفي ظل شح الموارد اللازمة لتنفيذ الإتفاق وعدم توظيف المتوفر منها بشكل صحيح، وفي ظل بيئة الإنقلاب الطاردة، وفي ظل حملات معادية تأتي من داخل اجهزة نظام الحكم ضد الاتفاقية ومعلومات مقصود منها تشويه الإتفاق مع ضرورة إعطاء الترتيبات الأمنية الأولوية التي تستحقها في التنفيذ.
علينا الابتعاد عن المطالبة بإلغاء اتفاقية جوبا للسلام سيما وان قوى الثورة ناضلت من أجل ابرامها، وعلينا أن ندعم كل المكتسبات التي نالتها مناطق الحرب والتي تخاطب جذور ومسببات الحرب وأن لا نزيد من دائرة الاحتقانات الاثنية والانقسامات الجغرافية فمصلحة السودان وقوى الثورة على النقيض من ذلك.
إن ازالة مسببات الحرب يعزز وحدة السودان كما أن السعى لبناء سودان جديد ديمقراطي قائم على المواطنة بلا تمييز ويسع الجميع هو وحده المخرج من أزمة بلادنا المركبة.