إهمال وضعف إنفاق.. منظومة التعليم بالسودان تعاني

مدارس متهالكة في قلب الخرطوم، وفصول في العراء في الكثير من القرى والمناطق الريفية، ومعدلات تسرب تصل إلى 20 بالمئة، وجامعات تفتقد لأبسط المقومات، وتراجع صاروخي في التصنيف العالمي، وأوضاع معيشية بالغة السوء للمعلمين وأساتذة الجامعات، فما الأسباب التي أدت إلى انهيار منظومة التعليم في السودان بعد عقود من الازدهار؟.
لأكثر من 100 عام، اكتسبت منظومة التعليم الحكومي والخاص في السودان سمعة قوية، قبل أن تتعرض خلال العقود الثلاثة الأخيرة لهزة عنيفة عزاها مختصون إلى “إقحام البعد الأيديولوجي في المناهج والمقررات، وتبعات الحروب الأهلية التي عاشتها البلاد، وضعف الإنفاق الحكومي الذي وصل إلى نحو 1.3 في المئة سنويا من ميزانية الدولة”.
مدارس غارقة في المشكلات
يعاني التعليم الحكومي العام من العديد من المشكلات المتعلقة ببنية المدارس وأوضاع المعلمين، إضافة إلى التشوهات الكبيرة التي طالت المناهج الدراسية خلال فترة حكم الإخوان.
وفقا لإحصاءات مستقلة، فإن 60 في المئة من المدارس الحكومية “لا تصلح لوجود الطلاب فيها، بسبب قدم مبانيها وإهمال صيانتها”.
الطلاب يعانون من نقص الكتب المدرسية والمعامل والمرافق العلمية والرياضية.
كما يشكل الفقر أحد أهم المعضلات التي تواجه التعليم في السودان، إذ حذرت منظمتا الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) و”رعاية الطفولة”، من “كارثة جيلية” في السودان.
المنظمتان قالتا إن “نحو 7 ملايين، أي 33 في المئة من إجمالي أطفال البلاد، لم يلتحقوا بالمدارس ولم يحصلوا على فرصتهم في التعليم”.
لا يتم تطبيق شعار مجانية التعليم العام، بحسب ما تنص عليه قوانين ودساتير البلاد.
التعليم الخاص
في ظل التدهور في بيئة التعليم الحكومي خلال فترة حكم النظام السابق؛ لجأ معظم السودانيين إلى المدارس الخاصة، بحثا عن وضع تعليمي أفضل لأبنائهم.
السنوات العشرين الماضية، شهدت توسعا كبيرا في مؤسسات التعليم الخاصة، حيث افتتحت أكثر من 2500 مدرسة خاصة، من بينها 1270 في العاصمة الخرطوم وحدها.
حصل عدد من النافذين على موافقات لإقامة مؤسسات تعليمية خاصة في أماكن مميزة، وقُدمت لهم تسهيلات مصرفية كبيرة، لكن تلك المؤسسات ظلت تعمل على رفع الرسوم بشكل مستمر، التي وصلت لأكثر من ألفي دولار، في بلد يعيش 60 في المئة من سكانه تحت خط الفقر.
لكن التعليم الخاص وعلى ضعفه يشكل عبئا ماديا كبيرا على الأهالي، حيث ضاعفت معظم المدارس الخاصة رسومها الدراسية بنسب تراوحت ما بين 100 إلى 300 في المئة خلال العام الحالي.
ويبرر ملاّك المدارس الخاصة تلك الزيادات بـ”ارتفاع تكاليف التسيير وأجور المدرسين، في ظل القفزة الكبيرة في معدلات التضخم التي تخطت 400 في المئة على أساس سنوي.
لكن أهالي الطلاب وجمعية حماية المستهلك، يتهمون مؤسسات التعليم الخاصة بـ”الجشع وعدم مراعاة الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها السودانيون حاليا”.
بيئة جامعية “مترهلة”
حتى نهاية ثمانينات القرن الماضي، كانت جامعة الخرطوم تسمى بـ”جميلة ومستحلية”، نظرا للسمعة الأكاديمية العالمية العالية التي كانت تتمتع بها، هي والجامعات والمعاهد الحكومية الـ9، التي كانت تشكل مجموع مؤسسات التعليم العالي في البلاد آنذاك.
لكن اليوم، ومع وجود أكثر من 60 جامعة حكومية وخاصة، وفي ظل المشاكل الكبيرة التي تعاني منها، لم تعد الجامعات الحكومية ذات التاريخ العريق، مثل جامعة الخرطوم التي تأسست قبل أكثر من 100 سنة، هي المكان المفضل للطلاب المتفوقين.
وتدهور ترتيب الكثير من الجامعات السودانية في التصنيف العالمي بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، لأسباب يتعلق بعضها بتدهور البيئة الجامعية داخل تلك المؤسسات، والبعض الآخر يتعلق بحالة عدم الاستقرار في الجداول الزمنية والنقص الحاد في الإمكانيات وعدم الاهتمام بميزانية البحث والتطوير.
يقدر عدد الطلاب المسجلين في الجامعات السودانية بأكثر من 600 ألف طالب، إلا أن الفترة الأخيرة شهدت إقبالا كبيرا على الدراسة في الخارج، نتيجة عدم توفر عامل الاستقرار في الجامعات السودانية، مما يضطر البعض للبقاء في الجامعة أكثر من 7 سنوات بدلا من 4 أو 5 سنوات قبل التخرج.
كما تلجأ الكثير من الأسر إلى إلحاق أبنائها بجامعات في دول أجنبية تجنبا للإرهاق المادي، في ظل ارتفاع الرسوم في بعض الجامعات السودانية إلى نحو 6 آلاف دولار في السنة، إضافة إلى ارتفاع تكاليف النقل والمعيشة داخل البلاد. ولم تفقد الجامعات الكبرى جاذبيتها بالنسبة للطلاب فقط، فقد أصبحت طاردة أيضا “للأستاذ الجامعي”، خصوصا في الجامعات الحكومية الكبيرة، التي تدهورت أوضاعها كثيرا خلال الفترة الأخيرة.
وشهدت العقود الماضية تراجعا كبيرا في ميزانيات مؤسسات التعليم العالي، مما أثر سلبا على مستوى البحث العلمي ووضع الأستاذ الجامعي، الذي أصبح يجد في جامعات أخرى خارج السودان أوضاعا اقتصادية وعلمية أفضل، مما أدى ذلك إلى نقص كبير في أعداد الأساتذة المؤهلين في الكثير من الجامعات السودانية.
وبدأت ملامح الانعكاسات السلبية لتدهور التعليم تظهر بشدة على الاقتصاد السوداني، خصوصا في ظل تدني ميزانية البحث والتطوير وعدم الاهتمام بتوفير المناخ المناسب الجاذب للأستاذ الجامعي.
ماذا يقول الخبراء؟
لخص وزير التربية الأسبق، محمد التوم، لموقع “سكاي نيوز عربية” أسباب تدهور التعليم العام في السودان بعدة أسباب، قائلا:
“عدم اهتمام الحكومات المتعاقبة بإعطائه الأولوية المطلوبة، باعتباره أحد أهم مقومات التنمية للبلد، إضافة إلى التدخل الأيديولوجي الخطير الذي طال المناهج والمقررات الدراسية خلال الأعوام الثلاثين الماضية، والضعف الكبير في الإنفاق الحكومي”.
“متوسط الإنفاق على التعليم في السودان يبلغ 1.3 في المئة من الإنفاق السنوي، وهو معدل ضعيف للغاية مقارنة مع 20 في المئة، حسب المتطلبات العالمية”.
“التهور الأكبر حدث خلال فترة التسعينيات، التي شهدت إقحاما خطيرا للفكر الإخواني حتى في العلوم التطبيقية البحتة، مثل الرياضيات وغيرها، مما أضعف العملية التعليمية ومخرجاتها بشكل كبير”.
التوم قال إن “الوزارة والجهات المختصة سعت بعد أبريل 2019 إلى وضع خطط لإصلاح العملية التعليمية وتنقية المناهج والمقررات من الشوائب التي لحقت بها، وصولا إلى مناهج ومقررات تتسق مع التطورات العالمية ومتطلبات التنمية؛ إضافة إلى الاهتمام بتدريب وتحسين أوضاع نحو 300 ألف معلم يعملون في قطاع التعليم العام”.
كما تضمنت الخطط “رفع كفاءة البيئة المدرسية وتوفير التعليم المجاني لجميع الأطفال في سن السادسة، وتوفير المتطلبات اللازمة لمنع تسرب التلاميذ من المدارس، سواء لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو أمنية”.
لكن التوم يشير إلى أن كل تلك الخطوات “توقفت الآن، بسبب الظروف التي يعيشها السودان في الوقت الحالي”.
من جانبه، رأى أستاذ علم الأنثربيولجي في جامعة الخرطوم، محمد المصطفى، أن:
“محاولات اختراق النظام العلمي والبحثي في الجامعات السودانية ظلت مستمرة منذ نهاية السبعينيات، لكن تلك المحاولات لم تترسخ وتحقق هدفها إلا بعد 1989”.
وقال المصطفى لموقع “سكاي نيوز عربية”: “البعد الأيديولوجي طال أنظمة البحث العلمي، مما أدى إلى تشويهها وتوجيهها في الاتجاه الذي يناسب أهداف اقتصادية وسياسية واجتماعية لمجموعات محددة، مما أثر سلبا على الأستاذ الجامعي ومجمل الأوضاع في البلاد”.
كما أشار إلى “التأثير الكبير للإضعاف المتعمد في ميزانيات الجامعات، مقارنة بالإنفاق المفتوح على الجوانب الأمنية والحزبية”.
أما المعلم محمد إبراهيم، الذي عمل مديرا للتعليم في ولاية الخرطوم، فقال إن “أهم مسببات التدهور الحالي في بيئة التعليم العام في البلاد، تتمثل في:
“عدم ترتيب الأولويات الحكومية وتراجع الاهتمام بالإنفاق على التعليم، مما أدى إلى هجرة العديد من المعلمين المؤهلين إلى الخارج أو للعمل في وظائف أخرى توفر لهم مستوى ماديا أفضل”.
وتابع: “التردي العام في مجمل قطاعات الدولة الخدمية والاقتصادية، انعكس سلبا على مؤسسات التعليم العام، التي تعاني حاليا من انهيار تام، سواء على مستوى البنيات التحتية أو التحصيل أو غيرها من الجوانب المكملة للعملية التعليمية”.
وبدورها، لفتت عضوة لجنة معلمي السودان، قمرية عمر، إلى أن:
“المعضلة الأكبر التي تواجه التعليم في البلاد، هي الإهمال الحكومي وغياب الإرادة اللازمة لحل المشكلات المتعلقة بالمعلم أو طبيعة ومستوى المنهج الدراسي، أو البيئة المدرسية المتدنية”.
وحذرت في حديثها لموقع “سكاي نيوز عربية، من أنه “إذا لم توضع سياسات صارمة لإنقاذ الموقف، فإن التدهور سيتواصل والتبعات الكارثية ستتزايد”.

مشاكل التعليم في السودان
Comments (0)
Add Comment