فيما أرى
4
على الجانب الآخر تشكو المنظومة الحاكمة حالياً من أن السيد النائب لا يرغب في العمل بطريقة مؤسسية تحت إمرة الدولة، محاولاً صنع دولة داخل الدولة، وهو ما من شأنه أن يشكل خطراً حاضراً ومستقبلاً على وحدة الدولة السودانية، ويظهرها دولة برأسين، وبسياسات متضاربة خارجية وداخلية، ولا يبدو أن النائب يعبأ بخطورة هذا الوضع، ربما لقلة خبرته كرجل دولة، فهو – على سبيل المثال – يتحرك خارجياً وداخلياً من دون أن يقدم تقارير مؤسسية، أو أي إفادات، عن تحركاته التي تتم بشكل مفاجئ، ولا يُعرف ما هدف الزيارات أو ما يترتب عليها؛ وعلاقاته مع الحركات المسلحة يشوبها الغموض، وتسهم في التوتر؛ بل إن تقريراً قد صدر عن الأمم المتحدة أثناء مفاوضات جوبا اتهم فيه حميدتي أنه يسعى لبناء تكتل جهوي باستقطاب الحركات المسلحة عدوة الأمس، ويغريها بالمال والمناصب التي يمنحها له اتفاق جوبا، غير أن د. تجاني عبد القادر – في مقاله بآفريكا فوكس 5 نوفمبر 2020 – يذهب إلى رأي آخر مفاده أن “هذه الاتفاقية لم تخرج في أغلب الظن من جلباب مني أركوي وحميدتي والبرهان، وإنما تم استخراجها وبلورتها من تراث سابق في الاتفاقات، ووفقاً لفلسفة خاصة في الحكم. وأن من صاغ هذا الاتفاق ومن وقع عليه يهدف صراحة إلى “التحول” من نظام “الحرية والتغيير” القائم على بنود “الوثيقة الدستورية”، إلى نظام جديد للحكم تكفلت بنود اتفاقية السلام بوضع أركانه الأساسية”، ذلك أن اتفاقية سلام جوبا “لا تلغي “الوثيقة الدستورية” بصورة واضحة ولكن لا تعتبرها مرجعية عليا، وهذا يعني صراحة أن تحولاً قد جرى من” المرحلة الثورية” وما استولدت من مواثيق، إلى المرحلة الجديدة وما تستولد من مواثيق، كما هو تحول من حاضنة المجموعات السياسية المتمركزة في الخرطوم، الى حاضنة الحركات المسلحة المنتشرة في الأقاليم النائية، والى حاضنة القوى الشعبية – الريفية الصامتة، وهو تحول يرقى، إذا قدر له أن يكتمل، الى مستوى الانقلاب الناعم”. وانتهى د. التجاني منذ وقت مبكر من توقع الاتفاقية إلى نتيجة أكدتها الأحداث التي تلت سلام جوبا، حيث وصف الاتفاقية بأنها “تعنى، من ناحية التحالفات السياسية، أن انفصالاً استراتيجياً قد وقع (وقد يستمر طويلاً) بين القوى المسلحة التي كانت تناضل من الهامش، والقوى المدنية التي كانت تنشط في المركز. وسيعني هذا أن كلاً منها سيسعى لعقد تحالفات جديدة”. ويرى د. التجاني أنه من الأنسب عدم المساس بجوهر الاتفاق لكن يمكن تعديله بموافقة أطرافه. وإلى ذلك ذهب مؤخراً الأستاذ الريح السنهورى أمين سر حزب البعث (السوداني). بدعوته لتعديل الاتفاقية برضا الحركات المسلحة، إلا أنه وفي إطار الصراع بين القائدين الرئيس برهان ونائبه حميدتي يظهر أن هنالك تسابقاً على كسب ود الحركات المسلحة والتنسيق معها، كما أن هنالك طرف ثالث دخل السباق لكسب ود الحركات وهو قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي فيما بعد 25 أكتوبر 2021، إذ بدأت وما زالت تناور بين سعيها للتحالف مع حميدتي والحركات المسلحة، فهي تبحث عن تحالف مع قوة صلبة بعد أن تضعضعت قوتها في الشارع وانقلب عليها الجيش، لكنها مناورات خطرة غير مأمونة العواقب، خاصة أن الحركات التي تموضعت جيداً في الساحة السياسية تدرك أن مساحات مناوراتها متسعة وبإمكانها تعزيز مكاسبها بالتسوق بين المتنافسين في الساحة السياسية مما زاد الأوضاع توتراً.
ثمة قلق آخر ينتاب الأجهزة الأمنية وهو اتصالات حميدتي بالقوى السياسية التي لا يعرف أحد هدفها أو ما يترتب عليها؛ فمثلاً تحركات السيد عبد الرحيم دقلو مع قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي تفتقد للتنسيق اللازم مع القيادة، مما أدى لتضارب التصريحات والمعلومات عنها، هل هو يمثل الجانب العسكري كله في المفاوضات، أم إنه يتحدث باسم قوات الدعم السريع؟ وهكذا فإن تحركات قوات الدعم السريع أصبح يُنظر إليها من قبل الأجهزة الرسمية بعين الريبة بعد أن بدأ تحيزها لطرف ما في الساحة، وكأنها تستثمر في تأجيج الصراع السياسي، يعزز ذلك تصريحات النائب المرتابة حول مبادرة الشيخ الجد ود بدر وقد حذر الأستاذ أمجد فريد (مستشار حمدوك إبان ترؤسه مجلس الوزراء) في تغريدة له بتوتير بتاريخ 2022/8/27 من خطورة التحالفات التي يجري طبخها، قائلاً: “شركاء الانقلاب.. شركاء في السابق.. لا يجدي التحالف مع أحدهما ضد الآخر لهزيمة الانقلاب إلا تمهيداً لانقلاب آخر”، كما حذر الحرية والتغيير من اتفاقيات الغرف المغلقة قائلاً: “بعض أطراف أو أفراد الحرية والتغيير تحتاج لأن تصحو من غيبوبتها أو مطامعها.. فالطريق لن تصنعة اتفاقات الغرف المغلقة، أي اتفاق على حل فليكن محروساً وفي العلن”.
إن تلك التغريدة تثير الكثير من التساؤلات، ولكن ما يمهمنا منها هنا أن هواجس الجيش بشأن التحركات السياسية الغامضة للدعم السريع حقيقة لا يمكن إنكارها. وهكذا أصبحت تحركات قيادات الدعم السريع داخلياً وخارجياً موضع شكوك وارتياب كبيرين للرئيس برهان والقادة الذين من حوله.
5
نخلص إلى أن هناك صراع خفي حول المستقبل يتعلق بمحاولة تموضع كلا الرجلين في الساحة السياسية في المستقبل، أو فيما بعد الفترة الانتقالية، ونلحظ ذلك السعي الدؤوب من كل طرف من الطرفين لإنشاء أو تأسيس حاضنة سياسية خاصة به؛ فالبرهان مثلاً يحاول أن يفعل ذلك عبر القبائل وخاصة في نهر النيل والشمالية (تنسيقية القبائل) وعبر علاقات خاصة مع قبائل شرق السودان (المجلس التنسيقي/ ترك) أو الطرق الصوفية، بينما يسعى حميدتي لتكوين حاضنة من الإدارات الأهلية والقبائل المختلفة في غرب السودان (تشي بذلك تحركات الأخيرة في المصالحات القبلية في دارفور). ذلك التنافس الخفي يغذي حالة التوتر والصراع بين الطرفين. لكن ما هي المحصلة النهائية لتلك الاتهامات والشكوك والصراع بين الطرفين.
لقد صنعت تلك الحالة جداراً سميكاً من المخاوف والترصد المتبادل مما أدى لتفسير أي إجراء أو قرار من أحد الطرفين على أنه مؤامرة ضد الآخر، خاصة وأن الساحة تعج بالمشايين بالنميمة وتغذية تلك المخاوف، خوفاً على مصالحهم وطمعاً في رضا الرجلين، لا يعنيهم مآلات تخريبهم للعلاقات بينهما ولا تهمهم خطورة ما تفضي إليه تلك الحالة على البلاد ومستقبلها.
هكذا تحّول التحالف بين الرجلين إلى تحالف خائفين من بعضهما، فأصحبت أي منهما ينظر إلى الآخر بعين المؤامرة، ولم تنجح تحركات سعت للتوفيق بينهما، وفشلت قرارات تسوية خلافاتهما التي انتهت إليها مبادرة رجال الأعمال (السوباط) ومبادرة الشيخ الياقوت، كما فشلت جهود السفيرين السعودي والإماراتي في هذا الصدد، وكشفت صحيفة العربي الجديد (في خبر لها بتاريخ 2022/8/29) عن تحركات مصرية سعودية في الملف السوداني جاء فيه: “قال مصدر مطلع إن الفترة الماضية شهدت مبادرة سعودية جاءت بتنسيق مع القاهرة للمصالحة وتهيئة الأجواء بين رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو حميدتي”.
إزاء تلك الأوضاع التي تخيم عليها الشكوك فإننا أمام ثلاثة احتمالات، أولها أن تجري تسوية بين الرجلين، وذلك بعد أن يتوصلا من خلال تداعيات الواقع إلى أن هذا أفضل خيار، فيتوصلا إلى تسوية معقولة تضع حداً لخلافاتهما، وذلك بتقنين وضع النائب ومنحه صلاحيات ومهام محددة ووضع رؤية لكيفية اتخاذ القرار السياسي في القيادة العليا للدولة، وهو الخيار الأجدى والأكثر واقعية، وخاصة أن ملفات ذات خطر بائن (فض الاعتصام/ الانقلاب) ومصيراً مشتركاً ينتظرهما في المستقبل القريب، ينقص ذلك الخيار أن توفر القوى السياسية ضمانات كافية لخروج الرئيس ونائبه من الحياة السياسية بعد الفترة الانتقالية بسلام، وأن تتعهد بإجراءات عدالة انتقالية ذات مصداقية أخلاقية، الخيار الثاني هو أن يسعى كل منهما وبالاستعانة بآخرين للتخلص من الآخر وإزاحته من السلطة عبر انقلاب أو أيّة وسيلة أخرى، وهذا الخيار يمكن أن تزينه للقائدين قوى داخلية وخارجية ولكنه خيار عدمي وبلا أفق، أما الخيار الثالث فهو أن يمتشق كلاً منهما سلاحه لتدخل البلاد في نفق حرب أهليّة لا تبقي ولا تذر، أما الخيار الرابع – والأقل كلفة – فهو أن يغادر الرجلان الساحة السياسية والعسكرية لتأتي قيادات بديلة من الجيش والدعم السريع لإكمال الفترة الانتقالية بدون صراعات وتوترات، غير أن هذا الخيار يبدو –في ظل التعقيدات الحالية – أنه مستحيل، ولكن والخوف كل الخوف أن يتحول من صراع عابر إلى تسابق نحو الهاوية.
6
أخيراً، إذا كانت تلك الخيارات أمام القائدين، فإن من المهم – في المقابل – أن تدرك القوى السياسية أبعاد هذه التعقيدات بواقعية سياسية، وأن تستشعر بموضوعية مخاطر تداعيات ذلك “الصراع القيادي” على مجمل الأوضاع بالبلاد، وألا تستخف بالعواقب التي يمكن أن تترتب عليه، لا سيما وأن القوى الإقليمية والدولية تظهر التقارير الصادرة عنها أنها غير مدركة لخطورة ذلك الصراع والسبب في ذلك اعتماد تلك القوى على تقارير من الناشطين والدوليين لا تسعفها لمقاربة عميقة للواقع أو لاتخاذ الموقف الصحيح بناءً على رؤية شاملة لتلك التعقيدات.
الآن بعد كل ما قلت أعلاه ماذا سيحدث؟
ما ظنك.. بقائدين يتربصان ببعضهما، وتأكلهما الشكوك والهواجس، في وطن معبأ بالغبائن والثأرات والصراعات السياسية، وتحفه المطامع الإقليمية والدولية.