عثمان جلال يكتب: النخبة السودانية دروس في الحكمة والقيادة

 

(رجل القدر يعلم أن وراء التل تلالا وتلالا فرحلة الحياة لا تنتهي)
(ديكليرك)

(1)
الدرس الأول عندما تآمرت النخبة السياسية والعسكرية في مملكة اكسوم الحبشية القديمة مع شقيق الملك وأبناءه على قتل الملك والد النجاشي (اصخمة ابن ابحر) حيث تم تمكين شقيقه على البلاط الملكي، وبيع ابنه النجاشي الصغير رقيقا في اليمن، وعندما توفي الملك العم لم تجد الصفوة الحبشية وسط أبناءه العشرة رمزا تسند إليه الملك ولما كادت أن تضطرب الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المملكة، اهتدت النخبة الحبشية إلى فكرة تحرير النجاشي الصغير من الرق وتنصيبه ملكا فأعاد الاستقرار والامن الاجتماعي وأورثته تجربة الظلم والقهر قيم العدل والتسامح مع الاخرين، ولم ينزع إلى ذهنية الانتقام والتشفي من أبناء عمومته الذين تآمروا على قتل والده بل إعاد روح الوحدة واللحمة للعائلة الملكية وبسط قيم الحرية والعدل في كل ارجاء المملكة الاكسومية.
(2)
الدرس الثاني عندما واجهت النخبة المؤسسة للدولة الأمريكية عام 1787 مأزق تشظي المجتمع، وتفكك الدولة بعد حرب التحرير ضد الإنجليز، بعد ان اشتد الصراع وتأزمت الأحوال السياسية والاجتماعية والأمنية حتى عجزت الحكومة الفيدرالية بقيادة جورج واشنطون من إدارة أمور الحكم والدولة فاجترح الآباء المؤسسون فكرة (الحل في الحل ) وأصدرت الحكومة المركزية مرسوما علقت فيه مسئولياتها وحفزت ذات الشعب الذي صنع ثورة التحرير للتوافق على ميثاق عقد اجتماعي جديد لإدارة مهام الثورة والانتقال، وتصميم النظام الديمقراطي الأمثل والمستدام، وتداعى المجتمع الأمريكي في مؤتمرات البناء القاعدي التي انتظمت في كل الولايات حتى تكللت في صنع الدستور الأمريكي الحالي عام 1789،وراى الكثير من الخبراء أن اللحظة التاريخية لحل الحكومة المركزية وتفويض المجتمع الأمريكي لاجتراح الحلول وإعادة الوحدة والسلم المجتمعي تعتبر أعظم من حرب الاستقلال الأمريكية.
(3)
الدرس الثالث من الزعيم القائد نيلسون مانديلا الذي اورثته تجربة الظلم والسجن ونظام الابارتاهيد قيم التسامح والعدل، وكانت ثمرة ذلك تأسيس الدولة الجديدة في جنوب افريقيا والتي تسع الجميع(البيض والسود) على قيم الحقيقة والمصالحة اي لا إقصاء لا تشفي لا انتقام، أو استبدال تمكين بتمكين، ولا محاسبة للمخطئين حيث قال رئيس اللجنة ديزموند توتو، أن الغرض من ذلك إزالة الأحزان وابراء الجروح وإقامة العدالة الترميمية وليس العقابية والعدالة الترميمية تصالح مع الذات، وتصالح بين قاعدة المجتمع وبناء ثقافة مفاهيم وسلوكيات جديدة تعظم من المصالح الوطنية العليا
(4)
صفوة الدروس من الثورة النبوية، فعندما توهم ابوجهل أن الثورة المحمدية محض تمكين سياسي واقتصادي وثقافي لبيت بني عبد مناف المتجذر في مكة وقال (زاحمنا بني عبد مناف في الشرف اطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا واعطوا فأعطينا حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه!! )، ولكن كان وعي النبي بكنه الثورة الاجتماعية الجديدة عميقا يتجاوز الأسر والبيوتات والأحزاب إلى الآفاق الإنسانية الطليقة لذلك جاء رده (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) وهما من البيت الاخر المنافس لبني عبد مناف على حكم مكة.
(5)
لم ينزع النبي القائد إلى تغيير تراتبية المعادلة السياسية والاجتماعية والثقافية الناظمة للعلاقات في مجتمعات الجزيرة العربية حتى لا يهتز ويضطرب ذلك المجتمع وهو المهاد لبناء الدولة الجديدة، وكانت ثمرة ذلك التفكير الاستراتيجي ثورة تغيير جذري في المفاهيم والسلوك وبنية الثقافة الاقطاعية الموروثة وتوظيف كل هذه الطاقات المتناقضة في كتلة تاريخية تمكينا للدين وإرساء دولة المؤسسات الحديثة، فصعد (أبوبكر وعمر) إلى الخلافة قبل أحفاد بني عبد مناف (عثمان وعلي) واعتلى بلال الحبشي مؤذنا وقائدا،وصهيب الرومي مستشارا عسكريا، وأم سلمة مستشارة في القضايا السياسية الحرجة (صلح الحديبية)،وبرز أسامة ابن زيد قائدا لجيش قاعدته الصلبة أحفاد قصي بن كلاب الأب المؤسس لحكم قريش في مكة بعد انهيار حكم خزاعة، وتلازمت سيرورة تفتيت السلطة السياسية والعسكرية والثقافية، حيث بقيت سدانة الكعبة عند آل طلحة وزعامة مكة في البيت الأموي، وراية الحرب عند بني عبد الدار، وزعامة الاوس والخزرج عند السعدين
(6)
الخلاصات فإن من إيجابيات تراكم الازمة الوطنية منذ الاستقلال عام 1956 احتشاد كل القضايا ونضوج الحلول على المستوى النظري. ولكن بالمقابل فإن متلازمة الاخفاق والفشل المستمر في صياغة عقد اجتماعي ينهي هذه الدورة الشريرة في الحكم والمتمثلة في (ديمقراطية، نظام استبدادي ثورة، مرحلة انتقالية)، زهد المجتمعات السودانية في الولاءات القومية والوطنية الجامعة وايقظ الهويات القبلية والاثنية والعشائرية مما وضع استمرار وحدة الدولة السودانية على المحك والخيارات اما وحدة وطنية ونظام ديمقراطي مستدام على اساس العودة إلى منصة التأسيس الأولى، واما التفكيك إلى دويلات، واما الفوضى والحرب الأهلية الشاملة، ما سيترتب عليها من تهديد للسلم والأمن الإقليمي والدولي.
(7).
في رأي ان السيناريو الأول قابل للتحقق إذا توفرت الإرادة والقيادة، ومنصة التأسيس لا تعني اختزال الأزمة والحلول منذ ثورة ديسمبر 2018، ولا تعني حالة الشقاق الماثلة داخل قوى الحرية والتغيير، وبين قحت والمكون العسكري، وما سيفرزه هذا الصراع من حاضنة جديدة بدأت في التشكل، فهذا الحراك والصراع العدمي يعني إستفحال الأزمة الوطنية والوقوع في فخاخ السيناريوهات المدمرة،أو إعادة إنتاج للدورة الشريرة في الحكم، الحل الوطني الشامل على أساس المنصة التأسيسية يعني عودة كل القوى السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وكل قيادات قطاعات المجتمع إلى يوم 1956/1/1، وتشخيص اسباب أزمة الحكم الوطنية واعتراف كل القوى السياسية بدورها النسبي في الأزمة للعبرة والاعتبار وسيادة ثقافة التسامح، ومن كان بلا خطيئة فليرمها بحجر، واجتراح الحلول وبناء العقد الاجتماعي الديمقراطي. وتشكيل الكتلة التاريخية الحرجة لصيانة الوحدة الوطنية، وترسيخ ثقافة النظام الديمقراطي المستدام.

Comments (0)
Add Comment