سباق محموم هذه الايام يقوده تحالف ( قحت المركزي+ دول الترويكا+ فولكر وبعثته و انضم اليهم أخيرا كما تناقلته الأخبار، الدعم السريع ). هذا التحالف يصوب الآن جهده لأستنساخ حالة تماثل النموذجين العراقي و الليبي . فهو يضغط في جميع الأتجاهات لصناعة حكومة ( مجلسي سيادة ووزراء) ممن اسماهم حميدتي وقحت “بقوى الثورة” وأسماهم فولكر “بأهل المصلحة”. المصطلحان متطابقان، المراد بهما من كان في السلطة قبل 25 أكتوبر الماضي.
ولحظة تشكيل هذه الحكومة ( حسب هذا السيناريو) ستعلن اوربا وأمريكا وبعض العرب اعترافا متسرعا بها على انها الحكومة الشرعية الوحيدة للسودان. أعيد للأذهان أنه في الأسبوع الماضي ، ومباشرة عقب أعلانهم الدستوري، الذي هو أصلا نسخة مترجمة كتبت في أمريكا، تم اخراجها شكليا على النحو الذي خرجت به، كما تم اعتمادها بسرعة مريبة في الكونغرس و الخارجية الأمريكية وسفراء خمس دول اوربية في الخرطوم، على انها دستور السودان ! و سينحون ذات المنحى المتسارع ساعة اعلان حكومتهم . و بهذا، فلحكومتهم “المرتجاة” وفق هذه الوثيقة، المفروضة جبرا من الخارج ، كامل الحق بالتصرف السيادي المطلق في كل شأن سوداني، بما في ذلك اعادة هيكلة الدولة كلها بجميع مؤسساتها السياسية والادارية والعسكرية والقضائية. وهذا بالضبط نفس ما هدف اليه حمدوك وسفيرا بريطانيا والمانيا عند تصميمهم لمهام البعثة الأممية في يناير 2020. والراجح ان تستدعي هذه الحكومة ( المرتجاه ) بعثة عسكرية يتجدد بها مشروع حمدوك الأول. ولأن ثقة اصحاب هذا المشروع في تنفيذه متمكنة ، فأننا نسمع كل يوم كيف يكيلون الشتائم لقيادة الجيش الوطني الحالية ويتوعدونها بما يعدونه لها من مصائر. يفعلون ذلك – كما يبدو – دون أدنى احساس بخطأ أو خطل ، ودون ان يرى المراقب موقفا مكافئا من الجيش او الشعب يستنكر هذا الأستعداء الغريب. مرد ذلك للثقة المبثوثة اليهم من صناع هذا المخطط الأكثر خطرا في تاريخ البلاد. و ربما استقر في عقل اصحاب هذا المشروع الاستئصالي ان الكثير من الناس قد تمكن منهم اليأس- تحت ضغوط الراهن الحياتي – من كل فعل سياسي، وأن قيادة الجيش باتت تفضل فقط الرقابة البعيدة والانتظار . ولكنهم (من فرط تشبعهم بجرعات التفكير الرغائبي و اعتمادهم المطلق على الدعم الغربي السياسي والعسكري ) يعتقدون أن الجيش سيستسلم لهم في النهاية!!! هذه كما تبدو رؤية استقرت لديهم ، فهكذا تتمحور اليوم، و في ضوء شمس الخرطوم مفردات هذا المشروع.
جميع خطوات هذا السيناريو تم التمهيد العملي لها بما يسمى الدستور الأنتقالي الذي صنع بالكامل في أمريكا، كما صنع دستور العراق الذي صاغه الاحتلال الأمريكي و أدار بمقتضاه بول بريمر العراق المحتل. انظر للعراق اليوم لترى ما سيحل بالسودان غدا. فقط عليك استبدال اسم بول بريمر ب فولكر بيرتس وستجد النتيجة متطابقة تماما.
وفق هذا السيناريو( الاكثر تفصيلا ) لن يكون هناك مدى للفترة الانتقالية، ولربما بعد سنين سينظرون ان كان ثمة حاجة لانتخابات. وان تحدد ذلك ( قل بعد 10 سنين كما نشر من قبل) فلن يكون السودان حينها هو الذي عرفه اهله على مدى القرون الماضية.
هذا السيناريو وان حظي بدعم الغرب ودولة عربية، فلا يتوقع ان يحظى بتأييد غالب أهل السودان. لكنه لن يلقي بالا لظواهر الاحتجاجات الصوتية خالية الوفاض من عناصر القوة الخشنة. فأحزاب قحت بالرغم من أن جلها كيانات نخبوية تعيش وتتنفس على دعم الخارج سياسيا و ماليا ، فهي كذلك تراهن على حماية عسكرية (سريعة لكنها مؤقتة ) من قوات الدعم السريع، ريثما يشكلون جيشهم الجديد ( من قوات الحلو ،وج النيل الازرق، وعبدالواحد، وبعض اللاجئين الارتريين في الشرق يجابهون بهم البجا.) او بتجديد استدعاء جيش البعثة الحمدوكية كما دعاها في يناير2020. مما يلاحظ المراقب انهم موقنون من نجاح مشروعهم ولا يلقون اعتبارا مثبطا لحراك شعبي أو عسكري مضاد!!!!!!
هذه ،من غير تهويل ، هي مفردات هذا السيناريو، الأكثر نشاطا والأعلى صوتا.
وهنا يثور سؤال محير: اين الجيش السوداني وقيادته من هذا الذي يجري في وضح النهار ، وفي قلب عاصمة البلاد؟ كثيرون ملأوا الأسافير بشاكلة هذا السؤال، ولم نعثر على جواب. يتحرك بجلاء بين في عاصمة البلاد وعواصم أخرى برنامج نشط تلك خصائصه المعلنة، ويقابل ذلك الجلاء والوضوح غموض قل ان نجد له مثيلا.
المشهور الذي أعلنه الرئيس البرهان أنه يبحث بين ركام ازمة البلاد عن وفاق او اجماع تندرج فيه أطراف التنازع القائم. غير أنه لا يوجد في حياة البشر توافق كلي لا يستثني أحدا، في اصغر الأمور فضلا عن اعظمها. لم يتحقق ذلك الى نبي مرسل ، ولا الى ملك مقرب ، ولا الى زعيم مصلح. فلا يبدو منطقيا رهن استقرار البلاد بانتظار المستحيل ! الأوفق هو اعتماد الاطروحات الوطنية ،الواسعة الطيف ، الخالية من إملاءات الأجنبي ، والمنافية لمفاهيم الأنعزال أو العزل السياسي. العزل السياسي فكرة تتطابق مع فكرة سحب الجنسية والمواطنة ممن هو مستهدف بها! فهل يملك كائنا من كان أن يسلب مواطنا حقه في الوجود والتمتع بحقوق جنسيته؟ قرأت تقرير فولكر الأخير بمحلس الأمن وخاصة فقراته التي يمتعض فيها من مواطنين سودانيين يعبرون عن رؤآهم في ما يرونه فعلا راجحا في أدارة بلدهم ! أعلم ان عددا من دول العالم تلزم بالقانون كل مواطن بلغ سن الانتخاب والمشاركة السياسية ان يدلي برأيه في كل شأن سياسي تتشكل بمخرجاته سياسات البلاد المتنوعة. ويرتب القانون في تلك الدول غرامات تتباين مقاديرها على من يفشل في الأدلاء بصوته حين يطرح ذلك في اقتراع عام. ولكن السيد فولكر يتبنى منهج العزل السياسي للسودانيين في بلادهم !
هذه رؤية لا تستوجب برهانا على بداهتها ! وأن استوجبت معالجات مكانها الطب النفسي وليس الحساب السياسي – العادل – المعتدل -المجرد!
حينما يبدو بنحو جلي أن البلاد قد وضعت بالفعل على عتبات الانحدار المهلك..هنا لا نفهم ان يتخذ القادة موقف الحياد بينما يتراءى لناظرهم بجلاء شهود المزالق التي تتسارع بسبب ذلك الحياد السلبي. الموقف الاوفق في حالتنا الراهنة هو الذي يعتمد التمايز الموضوعي بين الأكمل المرتجى من جهة ، والواقع الماثل من جهة أخرى. صون وجود الدولة ، وأمنها المجتمعي ، واقالت مزالقها يلزم أن يقفز الى موقع الصدارة على اعتبارات المثالية السياسية المؤمل بلوغها في ظروف مواتية ومستقرة. حين قراءة التاريخ السياسي لجميع دول العالم ذات النظم المستقرة على مدى القرون الأخيرة ، ستجد هذه هي الوصفة التي حققت بها عناصر استقرارها و ديمومة صعودها الحضاري.
برغم قتامة الرؤية الراهنة وغرابة المواقف المحيطة بها ، فاني موقن أن المخزون القيمي والروحي المتوارث للوطنية السودانية ( جيشا وشعبا) لم يستنفذ بعد.
ولكن؛
يلزمنا أن نوقن من غير توهم، انه حين يتم انزلاق البلاد لمثل هذا الذي يخطط لها، فستكون لا محالة غارقة في أوحاله لعقود متطاولة من الزمن( 20، 30 ، 50 سنة). مضى على العراق اليوم 20 سنة وعلى ليبيا 12 سنة وعلى الكنغو أكثر من 40 سنة … الخ. التطاول الزمني هو أهم خصائص مثل هذا الصراع العدمي المهلك. ومع كل سنة تتباعد فرص اللقاء بين اطراف هذا التنازع . وحين تلوح بعد عشرات السنين فرصة للالتقاء، لن يكون لما يتم التنازع عليه اليوم من مواقف نصيب من ذكر، فلن يكون غالبا في أذهان ساسة ذلك الزمن الآتي شيئا مما هو ماثل اليوم. اطروحات قضايا 2022 لن تكون هي اطروحات وقضايا 2030 أو 2040 او ما بعدها. العالم يتغير باضطراد وتواتر منتظم . ستأتي طوائف من فاعلين جدد ورثوا الصراع من اسلافهم ( ساسة اليوم)، وقد تكيفت رؤآهم مع المناخ السياسي الإقليمي والدولي ساعة جلوسهم لتسوية ” ما ” لا تمت بصلة الى ما يتصارع عليه اسلافهم ساسة اليوم. سيأتي جيل جديد من الفاعلين لم يكن لهم من قبل سهم في فعل سياسي. فما كان عليه اسلافهم ( احزاب اليوم) فقد عصفت به ( بعد عشرات السنين) رياح الزمن والتدخلات الاجنبية التي لا محالة تتغير هي الأخرى عبر السنين .
هذا ما ينبئ به الاستدلال الاستقرائي المنطقي لسياقات الأحداث الماثلة كما هي. وهو منهج بينه وبين القراءة الرغائبية بعد المشرقين. الرغائبيون يكتبون تحت احاسيس الأماني و الآمال ، وما يرغبونه في مخيلتهم حتى أن كان الواقع الماثل لا يمت بصلة لتلك الرغائب والآمال . والمنطقيون يصوبون روآهم على دلالات ما هو ماثل يتحرك، كما هو ماثل متحرك أمامهم. و ما هو ماثل أمامنا اليوم يتولد من دلالاته كل أو بعض ملامح السيناريو المذكور بعالية.
مهما يكن من أمر ، فأن الله غالب على أمره.
ابراهيم الكباشي
19 سبتمبر 2022