♦️ الأحزاب الحقيقية مثل الدول، لأنها هي التي تحكم في الدول المتطورة سياسياً، ومن ثم تتخذ الأحزاب في داخلها أجهزة للدولة مصغرة.
♦️ تُنشئ الأحزاب أجهزة للترويج والتبشير ببرامجها وسياساتها، وأجهزة لتجنيد عضويتها وضبطها، وأجهزة للعلاقات والأمن، وتتخذ منظمات تُعنى بنواحٍ شتى، ومن بينها واحدة متخصصة في قياس توجهات الرأي العام. وكل هذه الأجهزة تسمى “البنية التحتية السياسية” Political Infra – structure , ولا غنى لحزبٍ عنها.
♦️ أستطيع أن أقول واثقاً أن ليس في السودان سوى حزبين يتمتعان بوجود هذه الأجهزة: هما الحزب الشيوعي (على صِغَرِ حجمه) وحزب المؤتمر الوطني، وما عداهما فأحزاب ترعى مصالح جماعات وعائلات، خلوٌ من الهيئات الناظمة التي أشرنا لها آنفاً.
♦️ومن أسفٍ أن كل الأحزاب السودانية تعتمد على الدعم والسند الخارجي، باستثناء المؤتمر الوطني!!! وأثناء فترة معارضتها للإنقاذ كانت تتسوّل وتتكفف الدول عربيها وعجميها. وقد بانت سوءات كل تلك الأحزاب وعورتها المُغلّظة ويدها السُّفلى بعد (الثورة)، وتبعاً لذلك انحسار وطنيتها!!!
♦️ثم إن ما ذكره الأستاذ حسن اسماعيل عن تمويل البشير لحزب الأمة أثار انتباهي وشحذ ذاكرتي، بل ودعاني لأن أتقصّى وأستفسر كثيرين.
♦️ ومن أهم ما عرفته أنّ البشير سعى جاهداً لأن يبني أحزابنا بُغية أن تتفرغ لتأسيس أجهزتها البنيوية، وذلك عبر تمويلها لتَكُف يدها عن تسول الدول فتغدو مِخلب قطٍ لها توجهها أنّى شاءت فتنمحي وطنيتها.
♦️وحتى لا يصير ما أجملنا آنفاً قولاً مُلقىً على عواهنه، وللتاريخ، فينبغي أن نضرب له الأمثال. وليكن نموذجنا حزب الأمة الأصل الذي رأسه الأمام الصادق رحمه الله وأحسن إليه. علمتُ أن البشير كان يضيق بتهافت معارضيه الذين في الخارج على الدول يسألونها إلحافا، وكان يُلحُّ على قيادات حزبه أن تبذل وسعها لتجد وسيلة لإرجاعهم للسودان. ♦️في نوفمبر 1999 أجرت قيادات حزب البشير مفاوضات انتهت بتوقيع حزب الأمة اتفاقاً مع الإنقاذ عُرِفَ “باتفاق جيبوتي”. وفيه اتفق الطرفان على استيعاب حزب الأمة في الحكومة وفي البرلمان وفي أجهزة الدولة الأخرى. وبالفعل كوَّن الطرفان لجنةً فنية لتنفيذ الاتفاق، جعل حزب الأمة السيد مبارك الفاضل رئيس جانبه في اللجنة يعاونه المرحوم السيد الزهاوي إبراهيم مالك والمرحوم السفير نجيب الخير. وقطعت اللجنة شوطاً في عملها. ولكنها فوجئت بقرار مفاجئ من السيد الإمام بحل اللجنة وإبطال عملها.
♦️ فاوض مبارك الفاضل وزملاؤه السيد الإمام حول قراره، ولكنه تعنّت وأصرّ عليه إصرارا. وطلب منهم البشير مراجعة الإمام مرة أخرى وفعلوا دون جدوى، فقد بلغهم أن أسرة الإمام أخافته من رئاسة مبارك الفاضل للجنة وأقنعته أن استمراريته ستقود إلى أن يفقد هو كامل حزب الأمة!!!
♦️يقول الراوي: يبدو أن أسرة الإمام كانت تعرف ابنهم مبارك، لأنه حين استقر به المقام بالقصر جاء يوماً للبشير يحُثّه على التخلص من الإسلاميين. ضحك البشير وقال له: “بس ديل ناسي وأنا ذاتي منهم، وأنا لا بخون لا بغدر. أنا جنرال الما عاجبني بواجهو”!!!
♦️كان البشير حريصاً على وحدة حزب الأمة وتنفيذ الاتفاق معه كاملاً، فبعث عدداً من قادة حزبه للإمام إلّا أن مساعيهم لم تثمر. من ناحيتهم تمسك جماعة مبارك الذين في اللجنة وعدد من قيادات الحزب بالمضي في الاتفاق قُدُما. وبالفعل نالت قيادات منهم مناصب في الوزارة وفي الخارجية ومؤسسات وولايات.
♦️أصاب هذا الترتيب السيد الإمام بالهلع وخشي أن يتبع كثيرون مبارك ومناصريه. وهنا اقترح دكتور عمر نور الدايم – عليه الرحمة – على الإمام تنظيم بيعة للأنصار للحفاظ على الكيان وتقوية صف الإمام. وكانت البيعة تقتضي جلب مئات من قيادات الأنصار من الولايات، لكن هذا الإجراء يتطلب مالاً كثيراً. واقترح دكتور عمر أن يذهب الشيخ عبد المحمود أبّو للبشير لتوفير المبلغ. وهذا ما قد كان.
♦️عقدت البيعة في السقّاي، وتكفل البشير بنفقات الترحيل من الولايات والإعاشة والنثريات والإقامة لخمسة آلاف من عضوية الأنصار وحزب الأمة. واستلم المبالغ لجنة مالية فيها عبد المحمود أبّو وعُقد مؤتمر البيعة بالسقاي وحضر البيعة (19-21 ديسمبر 2002) قيادات المؤتمر الوطني وقيادات حزبية أخرى. علماً بأن الإمام كان رافضاً الجمع بين القيادة الدينية والسياسية لكنه وجد نفسه في مأزق لا مخرج منه سوى البيعة.
♦️لم تقتصر رعاية البشير لحزب الأمة بالبيعة فقبلها سدد تعويضات لعناصر جيش الأمة الذين رجعوا من أريتريا ولم يولهم السيد الصادق وقيادة الحزب عنايةً. وتواصل مدد البشير بأن أعطى هيئة شؤون الأنصار قطعة أرض ضخمة غرب سوق ليبيا. ووظف عبد المحمود أبّو وشيوخ أنصار بمجالس إفتاء المصرف وفي مجمع الفقه ووزارة الأوقاف، هذا رغماً عن أن #حزب_الأمة اتخذ من الهيئة منبراً لمعارضة البشير الذي يمولها.
♦️كانت أموال #المؤتمر_الوطني تصل للإمام شهرياً، وكان يأخذ 60% منها ويمنح الحزب الباقي. وكان الإمام يزور البشير في مقر إقامته عند أو عقب صلاة الفجر مباشرةً ليقدم له طلباته التي كان من بينها توظيف ابنه بُشرى في جهاز الأمن.
♦️ وتناهي إلى علمي أسماء الثلاثة الذين كانوا يتسلمون أموال المؤتمر الوطني شهرياً ثم يسلمونها للإمام .
♦️ سأفصل في المقال التالي حيثيات تلك الوقائع وخلفياتها وتداعياتها وكذلك دور الوطني في أحزاب أخري وأثر كل ذلك على المشهد السياسي السوداني. نواصل