قام الإنجليز في أواخر القرن الـ19 بتطوير شبكة ري مُتطورة نسبياً لذلك الوقت ومشروع زراعي ضخم في ولاية الجزيرة بالسودان والذي أُطلق عليه اسم الولاية نفسها. أُنشئ مشروع الجزيرة أساساً لزراعة القطن، والذي تمت زراعته بنجاح بمشروع الجزيرة في مطلع القرن الـ20، وتصديره كجزء من منظومة مُتكاملة يتم فيها ربط مصادر إنتاج القُطن مع مصانع إنتاج الأقمشة في الإمبراطورية البريطانية آنذاك. كان مشروع الجزيرة، ولايزال، أنجح مشروع زراعي في السودان قبل أن يتم تحويله من زراعة القطن إلى زراعة القمح.
فالسودان، على الرغم من مُقوماته الزراعية المهولة، لم يتمكّن من تحقيق اكتفاء ذاتي في زراعة القمح سوى جزئياً ولفترات وجيزة في سبعينيات القرن الماضي أثناء فترة حُكُم جعفر النميري، حينَ أرادَ الأخير أن يتمكن السودان من زراعة ما يستهلك من القمح نظراً لمشاكل البلد الاقتصادية والتي أدَّت إلى انخفاض في احتياطاته من العُمُلات الأجنبية وحجَّمت بالتالي من قُدرته على استيراد حاجته من القمح.
لتحقيق ذلك، قام النميري بإعلان سياسة الاكتفاء الذاتي في القمح وقدَّمت حكومته دعمها للمُزارعين، إما بشكل مُباشر من خلال دعم أسعار استيراد المُعدات الزراعية والسماد الزراعي وشراء القمح بسعر ثابت من المزارعين وبالتالي حمايتهم من تذبذب أسعار القمح العالمية، أو بشكل غير مُباشر من خلال دعم سعر البيع لرغيف الخُبز المُعد من القمح الذي تم إنتاجه محلياً. كما قام النميري بالتسويق لسياسته الزراعية في السودان مع دول المنطقة على أن الاكتفاء الذاتي للسودان وأمنه الغذائي ما هُوَ إلا الخطوة الأولى ليُصْبِحَ السودان سلة العالم العربي الغذائية بُغية جذب الاستثمارات من هذه الدول، وقد كان سعر النفط مُرتفعاً حينها فَسَهُلَ عليه ذلك.
ونتيجةً لهذه السياسة الحكومية الداعمة لزراعة القمح في مشروع الجزيرة، تحول أغلب المُزارعين من زراعة القطن إلى زراعة القمح.
تبدو الأمور منطقية حتى الآن، إلا أنَّ ما كان حاصلاً وقتها غير منطقيّ على الإطلاق.
فحين قام النميري بإعلان سياسة الاكتفاء الذاتي للسودان في القمح، كان سعر الكيلوغرام الواحد من القطن في الأسواق العالمية يساوي ما يُقارب سعر الأربعة كيلوغرامات من القمح. أي أن زارع القُطن في السودان يُمكنه تصدير وبيع ذلك القُطن في السوق العالمية له وشراء أربعة أضعاف ذلك من القمح، ما يعني بطبيعة الحال عدم الحاجة لزراعة القمح محلياً أو تحمُّل الحكومة تكاليف باهظة لدعم إنتاجه.
وكما هو الحال مع مثل هذه السياسات، تغيرت أولويات الحكومة بتغير الحكومة، وتمَّت مُراجعة سياسة الحكومة الزراعية لأسباب عديدة منها الجفاف وانخفاض الاستثمارات من الدول المُصدرة للنفط بانخفاض أسعار النفط والكلفة الباهظة للدعم المُقدم من قبل الحكومة لسياسة الاكتفاء الذاتي.
هذا ما حصل مع السودان. لم تتمكن الحكومة من تحمُّل التكاليف الباهظة التي ارتبطت بزراعة سِلعة لم يتم تأسيس مشروع الجزيرة لزراعتها ولم تتمكن من إعادة مستويات زراعة القُطن إلى ما كانت عليه. ففَقَدَ السودان مكانته بين مُنتجي ومُصدري القُطن ولم يُحقق أمنه الغذائي من اكتفائه الذاتي ولم يُصبح سلة غذائية للعالم العربي كما كان يُرَوّج له في كُتُب التاريخ.
عبدالناصر الشعالي
اقتصادي مختص في الأمن الغذائي
جريدة البيان