قبل 2400 عام شرح القائد العسكري الصيني سون تزو قواعد التدريب لجنوده ثم أصدر أوامره على قرع الطبول، ولكن حين أراد إقناع ملك “مملكة أوو” بتعريض نظريته في إدارة الجنود لامتحان بسيط من خلال تطبيق بعض أوامره الاستراتيجية على فتيات في القصر، تضاحكن بصوت عالٍ فقال، “إن لم تكن كلمات الأمر جلية وواضحة، وإن لم يُفهم الأمر جيداً فعندئذٍ يجب أن يُلام الجنرال”.
والآن بعد مرور عام على الإجراءات التي اتخذها رئيس” مجلس السيادة الانتقالي”، القائد العام للجيش السوداني، الفريق أول عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، لا يبدو أنها كانت جلية بشكل كافٍ، ففي الوقت الذي قال البرهان إنها لتصحيح مسار الثورة فإنها شكلت انقلاباً على “الوثيقة الدستورية” التي تم التوقيع عليها في 17 أغسطس (آب) 2019، وظهرت في الجريدة الرسمية في 3 أكتوبر 2019، وأهمية هذه الوثيقة فضلاً عما تحويه من بنود أنها حملت رمزية سياسية بوصفها ثمرة للاتفاق الذي توصل إليه المجلس العسكري والمكون المدني المتمثل في “قوى إعلان الحرية والتغيير” المشكلة من تجمع المهنيين والجبهة الثورية وتحالف قوى الإجماع الوطني والتجمع الاتحادي في يناير (كانون الثاني) 2019.
وكان من المقرر أن تكون “الوثيقة” المرجعية الأساس للفترة الانتقالية لمدة 39 شهراً، باعتبارها القانون الأعلى في البلاد وتسود أحكامها على جميع القوانين، لكن منذ البداية انتقدت الوثيقة لأنها صيغت على عجل وفي فترة فوضى سياسية وإدارية، وفي ظل وجود تجاذبات بين المؤسسات العدلية والقضائية وتعطيل المجلس التشريعي، وانعكس ذلك على العلاقات الخارجية في الحقل الدبلوماسي والتجاري والاستثماري، وكذلك في ما يخص الاتفاقات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان وحرية التعبير التي يفترض أن تظل مؤسسة على تشريعات داخلية تدعمها.
ومن آثار ذلك أن “اتفاق جوبا” للسلام الذي وقعت عليه حكومة الفترة الانتقالية والحركات المسلحة في الثالث من أكتوبر 2020 تهدده كثير من الخلافات التي نتجت منها معوقات ربما تنسف ملف السلام الذي يُعد من أهم الملفات التي تسهم في اندماج السودان مع المجتمع الدولي.
سمة الانقلابات
ولم تبتعد الإجراءات التي فرضها البرهان عن ما تتسم به الانقلابات العسكرية في السودان، ففي كل انقلاب يقوم الجيش مباشرةً بإيقاف العمل بالدستور وإلغاء البرلمان والقضاء على نشاط الأحزاب السياسية واعتقال السياسيين وإعلان الطوارئ، وما يعلمه السودانيون جيداً أنه كلما طال عهد الحكم العسكري كلما تعذر اقتلاعه، والتجارب الواضحة متمثلة في انقلابات السودان التاريخية الثلاثة، فقد نفذ الفريق إبراهيم عبود أول انقلاب عسكري في السودان، وهو في الواقع “تسليم وتسلم” للسلطة من رئيس وزرائها آنذاك الأميرالاي عبدالله خليل في الـ 17 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1958 وذلك بتواطؤ من زعيم طائفة الأنصار عبدالرحمن المهدي واستمر حتى عام 1964.
أما الانقلاب الثاني فحدث عندما استولى العقيد جعفر النميري على السلطة يوم الـ 25 من مايو (أيار) 1969 مدفوعاً من الحزب الشيوعي السوداني ضد حكومة الرئيس إسماعيل الأزهري في عهد الديمقراطية الثانية في السودان، وكون مجلسين هما مجلس قيادة الثورة برئاسته ومجلس الوزراء برئاسة رئيس القضاء الأسبق بابكر عوض الله، واستمرت حكومته حتى الانتفاضة الشعبية في السادس من أبريل (نيسان) 1985.
ونفذ الانقلاب العسكري الثالث العقيد عمر البشير بقيادة حسن الترابي زعيم “الجبهة الإسلامية القومية” على حكومة الصادق المهدي في فترة الديمقراطية الثالثة، واستمر الحكم العسكري 30 عاماً تخللها فرض عقوبات دولية على السودان، ووصلت إلى مقاطعته باتهامات رعاية السودان للإرهاب وصدور مذكرة اتهام ضد الرئيس السابق البشير من المحكمة الجنائية الدولية بسبب اتهامات الإبادة العرقية في حرب دارفور، إضافة إلى الصراعات الداخلية بين الحكومة والقوى السياسية المعارضة من جهة، وبين الإسلاميين على سدة الحكم من جهة أخرى.
وشهدت تلك العقود صدور عشرات القرارات الدولية ضد السودان بسبب الحروب والنزاعات الأهلية، إضافة إلى قوانين أصدرتها الولايات المتحدة مثل “قانون دارفور للسلام والمساءلة” في الـ 13 من أكتوبر 2006، وكان يؤكد موقف الولايات المتحدة من أن “النزاع في دارفور يشكل إبادة جماعية” ويطلب من الحكومة السودانية “توسيع قوة حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي في دارفور، وإعطاء فرض تفويض أقوى بما في ذلك دعم لوجيستي أكثر قوة”.
نسف الإنجازات
وتنصب معظم النداءات المحلية والدولية الموجهة إلى المجلس العسكري في إعادة السودان إلى ما قبل الـ 25 من أكتوبر الماضي، أي إعادة الشراكة بين المدنيين والعسكريين، لكن ما قام به البرهان أفقد الجميع الثقة في أن تعود الشراكة خالية من أي إحساس بالغدر من جانب المكون العسكري، ولذلك قفزت المطالب إلى إقامة حكومة مدنية من دون انتظار انتهاء الفترة الانتقالية، لأن الأمر لم يقتصر على نيات تعطيل عملية الانتقال الديمقراطي وحسب، وإنما تهديد أمن وسلامة المواطنين ومواجهة الاحتجاجات السلمية بالعنف.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا السلوك الإقصائي من شأنه أن يطيل أمد الأزمة السياسية ويحتكر السلطة في ظل غياب مؤسسات الدولة وخروج الجيش والشرطة بأسلحتها لمواجهة الاحتجاجات التي تطالب بإعادة الحكومة المدنية وإطلاق المعتقلين السياسيين وقيام مجلس تشريعي، والتمادي في ذلك وعدم الاستجابة ربما يعيد السودان لما قبل ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، مما لا تجدي معه أية مفاوضات أو حلول توافقية داخلياً، ثم ينطبق ذلك على المستوى الخارجي بالعودة بالسودان للعقوبات الدولية ومقاطعته ونسف الإنجازات القليلة التي تحققت بالانفتاح على العالم، إذ شهدت البلاد خلال العامين السابقين لإجراءات البرهان زيارات مسؤولين دوليين لمناقشة علاقات بلادهم بالسودان وقضايا النزاعات الداخلية وغيرها، كما شهدت تلك الفترة تقدماً إيجابياً في ملف حقوق الإنسان بخروج السودان من قائمة الاضطهاد الديني، كما أشادت الولايات المتحدة بالانفتاح السياسي.
وتخلل نشاط السودان أيضاً خلال حكومة حمدوك الأولى اختراق السياسة الخارجية وارتفاع مستوى العلاقات الدبلوماسية، واستطاعت حكومته إعادة دمج علاقات البلاد مع البنك وصندوق النقد الدوليين وسداد جزء من الديون، وتمت المصادقة على قرض بنحو ملياري دولار، وبعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على الإصلاح الاقتصادي بدأت إجراءات اقتصادية قاسية لتخفيف برامج التكيف الهيكلي شملت رفع الدعم وتحرير وتعويم سعر الصرف للجنيه السوداني، فنتجت منها آثار اجتماعية مباشرة، لكن الصندوق والبنك الدوليين أسهما في درئها بتوفير قروض الدعم الاجتماعي بنحو 650 مليون دولار، وكان الهدف منها إزالة التشوهات والآثار الاجتماعية الناتجة من تنفيذ هذه البرامج.
تهديد الديمقراطية
وقبل صدور قرارات البرهان التقى المبعوث الأميركي السابق للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان رئيس مجلس السيادة الفريق البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو في الـ 23 من أكتوبر، وشدد على ضرورة الالتزام بالفترة الانتقالية إيذاناً بنقل السلطة إلى المدنيين، وبعد الإجراءات مباشرة كرر فيلتمان تحذيره من أن الولايات المتحدة سترد عليها بقوة، وبالفعل أعلنت واشنطن أنها “لن تستأنف إرسال المساعدات المالية المعلقة للحكومة السودانية قبل انتهاء العنف وعودة الحكومة المدنية التي تعبر عن إرادة الشعب السوداني لحكم البلاد”، كما حذرت من “اتخاذ خطوات إضافية في حال عدم تراجع القادة العسكريين عن موقفهم”.
وبعد ما يقارب العام وفي الأول من سبتمبر (أيلول) الماضي قدم السفير الأميركي جون غودفري أوراق اعتماده لرئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان، ووضع حداً لقطع العلاقات الدبلوماسية التي امتدت لربع قرن منذ أن غادر آخر سفير للولايات المتحدة الخرطوم، وتم الترتيب لذلك عام 2019 بعد رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في عهد حكومة حمدوك الأولى، وكان التمثيل الدبلوماسي في عهد البشير مقتصراً على القائم بالأعمال الأميركي.
وبعد مرور عام أصدر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بياناً دعا فيه إلى إنهاء الحكم العسكري في السودان، وذكر أنه “منذ أن أطاح الجيش السوداني حكومة بقيادة مدنية بات يهدد الطموحات الديمقراطية للشعب السوداني وحان الوقت الآن لإنهاء الحكم العسكري”، ولا تزال الولايات المتحدة تجدد ربطها تقديم المساعدات إلى السودان بإنهاء إجراءات البرهان التي أنهت الشراكة التي كانت قائمة بين المدنيين والعسكريين منذ إسقاط نظام البشير في أبريل 2019، وعودة المسار الانتقالي إلى حكومة مدنية.
وهناك من ينظر إلى عودة العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والسودان على رغم عدم تنازل البرهان عن قراراته بأنها تجيء في إطار المنافسة الدولية بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، فالاستراتيجية الأميركية نحو قارة أفريقيا تتأسس على رعاية مصالحها والمستويات الأمنية في ممرات النفط والتجارة العالمية وحماية قواعدها العسكرية في القرن الأفريقي ومكافحة الإرهاب، وتشترك معها إلى حد ما بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا في بعض هذه القضايا.
ضغوط عالية
وكشف السلوك السياسي في فترة ما بعد إجراءات البرهان بأنه مصمم على استخدام الفترة الانتقالية في تجربتها الحالية غير المسبوقة والتي حدث خلالها ما لم يحدث في فترات السودان الانتقالية الماضية، بغرض إعادة التعامل مع المؤسسات الدولية والمطالبة بإصلاح البلاد وتسوية الديون وغيرها لتناسب بقاءه في السلطة، لكن عدم وجود دستور انتقالي أو صيغة تشريعية تطمئن القوى الدولية يجعل من الصعب التعاون معه، وسيصب كل ما نراه من بوادر الانفتاح الدبلوماسي في جعل الباب موارباً انتظاراً لاستجابة العسكريين وتعاون المدنيين من خلال أجسام سياسية واضحة بعد تعرضهم إلى انقسامات كثيرة.
وصرح السفير الأميركي جون غودفري أخيراً بأنه “سيمارس ضغوطاً عالية على العسكريين والمدنيين لإبرام تسوية تتيح إنهاء الانقلاب العسكري وتشكيل المؤسسات الانتقالية واستعادة المسار الديمقراطي”، ويبدو أن السفير الأميركي واثق من خطواته لأن العلاقات الدبلوماسية الأميركية مثل غيرها ترتبط بمصالح ثنائية مهمة، وهناك تجارب سابقة توضح اعتماد التجارة والاستثمار وإعفاء الديون وبذل القروض وصياغة السياسة الخارجية للشركات متعددة الجنسيات وغيرها على هذه العلاقات، كما أن العلاقات الدبلوماسية تسهم في التأثير والحفاظ على السلم والأمن الداخليين، ومن التجربة القصيرة في حكومة حمدوك الأولى اتضح كيف أن الأمم المتحدة ببعثاتها المختلفة والاتحاد الأفريقي و”إيغاد” أحدثوا اختراقاً في ملف السلام بتشديدهم على الحكومة والحركات المسلحة بضرورة الدخول في محادثات أفضت إلى توقيع “اتفاق جوبا” للسلام، وعلى رغم الخروق المصاحبة له فإنه يعد إنجازاً بالمعايير المحلية وقياساً إلى نسبة الصراعات المسلحة في السودان.
ومع تزايد الضغوط على الإدارة الأميركية بفرض عقوبات على السودان، فإن هناك أصواتاً تنادي بفرضها على العسكريين بدلاً من العقوبات الواسعة على البلاد التي أثبتت تجربة النظام السابق أن الذي تأذى منها هو الشعب السوداني وليس رموز النظام، وهناك ثلاثة محددات يمكن أن تعوق الجهود الدبلوماسية الأميركية، وهي الانقسامات واتساع المسافة بين القوى السياسية وعدم اليقين المتزايد لدى المدنيين في جدوى الاتفاق مع العسكريين، وتأخر الحوافز الأميركية والاقتصادية الدولية في مقابل أي تنازل يقدمه المكونان العسكري والمدني من أجل الإصلاح.