الخرطوم: علي وقيع الله
وصل حال الناس إلى مرحلة يكونون فيها أحوج إلى جعل التعاون سمة عالية، خاصة في مثل هذه الأوضاع الاقتصادية التي أضحت هشة، مقارنة بأي وقت مضى، ورغم تعدد الأعمال والوظائف إلا أن العائد المادي منها لا يحقق تلبية الاحتياجات بقدر مطلوب، فعلى صعيد المنصرفات المتزايدة تكمن المشكلة، في وقت قل فيه الدخل الأسري وأصبح محدوداً بشكل ملاحظ، الأمر الذي أرغم كثيراً من الأسر للجوء للاستدانة لجلب الأغراض اليومية، هذا ما تعانيه الأسر اليوم مقارنة بالسنوات الماضية، مع المقارنة بالماضي، فكانت الدخول تفوق المنصرفات بنسبة كبيرة، وبحسب ما أحدثه انفصال جنوب السودان في العام 2011 فقد السودان موارد مهمة جعلته يدخل في حالة تضخمية وترتب عليها انهيار تدريجي لسعر الجنيه مقابل الدولار.
رواتب الموظفين
المحلل الاقتصادي المعروف، الفاتح عثمان محجوب، قال في عام 2010 كانت رواتب كثير من الموظفين في السودان تقارب مثيلتها في دول الخليج للأجانب، ولذلك اختار عدد كبير من المغتربين السودانيين العودة إلى السودان، ولفت إلى أنه بعد انفصال جنوب السودان وفقدان السودان لموارد النفط؛ بدا السودان يدخل في حالة تضخمية نتجت أساساً من انهيار تدريجي لسعر صرف الجنيه السوداني مقابل الدولار، ومضى قائلاً : مما اضطرت الحكومة السودانية لسد النقص في الإيرادات باللجوء للسحب على المكشوف، وبالتالي هو ما أدى إلى تضخم وصل إلى 40% في آواخر عهد الإنقاذ، ويشير إلى أنه خلال عامين فقط بعد الإطاحة بالرئيس البشير وصل التضخم إلى 425% في أغسطس من العام الماضي وهو رقم قياسي جعل السودان يحتل عالمياً المرتبة الثانية في حجم التضخم خلف فنزويلا.
حفظ الحياة
ويرى د. الفاتح عبر تصريح ل(اليوم التالي) أن هذا التضخم الشاذ أدى لضعف كبير في القدرة الشرائية للمواطنين السودانيين خاصة أصحاب الدخل المحدود، وبالتالي باتت غالب المرتبات لا تكفي إلا لبضعة أيام فقط شهرياً، ويتم بعدها الاعتماد على الاستدانة والبحث عن عمل إضافي أو الهجرة لبلدان الخليج العربي أو اوروبا، وقال.. بشكل عام اضطرت معظم الأسر لاختيار التنازل عن كثير من السلع والخدمات والاكتفاء بما هو ضروري لحفظ الحياة فقط، وحث الأسر السودانية على التخلي عن نمط الحياة غير المنتج والتحول إلى أسر منتجة مكتفية ذاتياً من الخضر والفواكه واللحوم و الألبان؛ مع التركيز على تربية الدجاج، مشدداً على ضرورة إدخال تربية الدجاج والحمام والماعز في أغلب منازل محدودي الدخل، بالإضافة إلى أحواض لزراعة الخضراوات من أجل الاكتفاء الذاتي.
مشكلة كبيرة
بالتأكيد محدودية الدخل مشكلة كبيرة جداً؛ هذا ما قاله المحلل الاقتصادي الدكتور، محمد الناير، وأردف: كثير من أفراد الشعب يعتمدون على الدخل المحدود، وعلى التوظيف في القطاعين العام والخاص، وبالتالي يكون الدخل معلوماً ومحدوداً ولا يكفي الحد الأدنى لمتطلبات المعيشة فضلاً عن أن الفرد يعول أسرة كاملة، ويرى أن المشكلة تتجسد في القائمين على أمر القطاع التجاري، مشيراً إلى الحركة التجارية المتعلقة بالنشاط التجاري سواء كان مغالق أو غيرها، أصبحت حركة البيع ضعيفة جداً لدرجة أن رب العمل نفسه قد لا يجد عائداً من البيع ما يغطي تكاليف الإيجار والكهرباء والرسوم والضرائب ورواتب العاملين.
التمويل الأصغر
وأوضح د. الناير في تصريح ل(اليوم التالي).. أن القضية لم يكن سببها التضخم وإنما قضية الركود التضخمي الذي أصاب الاقتصاد الوطني وجعل حركة النشاط الاقتصادي ضعيفة، وبالتالي أصبح كثير جداً من أصحاب النشاط التجاري وبحسب حديثهم (يوم كامل لم يبيعوا وما يبيعونه لا يكفي تغطية التزاماتهم)، واصفاً إياها بالظاهرة الحقيقية، ولفت إلى أن التخلص من ظاهرة الدخل المحدود وتتجه نحو الاستثمار فهذا تحكمه قضية التمويل الأصغر، وهنا قال.. ينبغي على الدولة أن تشجع التمويل الأصغر بصورة كبيرة وتعمل على تمكين الشباب نحو امتلاك مشروعات إنتاجية، ورهن ذلك نسبة لارتباطه بالسياسات الاقتصادية تشجع على تحريك النشاط الاقتصادي وتساعد على تدوير عجلة الإنتاج، منوهاً إلى أن السياسات الاقتصادية التي اتبعت في الفترة الماضية أدت لارتفاع تكاليف الإنتاج بصورة كبيرة، مما أثر على عجلة الإنتاج وكذلك أثرت بصورة كبيرة على النشاط الاقتصادي، وشدد على ضرورة تغيير المفاهيم حتى وإن أرادت الدولة أن تمنح الشباب التمويل الأصغر، لا بد من أنها تتبع سياسات تساعد على تحريك النشاط الاقتصادي في البلاد حتى لا تتعثر، وأبان.. حتى إيرادات الدولة مرتبطة بالنشاطات الاقتصادية والحركة التجارية إذا لم تتحرك لن تجد الدولة إيرادات تتحصلها من الضرائب وغيرها من الأشياء.
بديهية وطبيعية
المحلل الاقتصادي الدكتور، وائل فهمي البدوي، ينظر إلى مشكلة تدهور معيشة الأسر، بأنها ليس بمضاعفة احتياجاتها اليومية، بل هي نتيجة بديهية وطبيعية لعدم كفاية الدخل، بسبب السياسات التضخمية التي تبنتها حكومات الفترة الانتقالية، وما قبلها، ليتدهور ما يسميه الاقتصاديون بالدخل الحقيقي بأسرع من ارتفاعات الأسعار، خاصة لأصحاب الدخول الاسمية الثابتة، بما فيهم المعاشيين أو الصغيرة أو ما دون المتوسطة، رغم اجتهادات الأخيرة لموازنة الدخل مع المنصرف اليومي، ليشكل ذلك واقعاً بائساً لا يمكن لأصحاب تلك الدخول أو حتى الحكومة (المتفرجة أو النيوليبرالية)، بسياساتها التضخمية الصادمة أن تتغلب عليه.
الأجور المنخفضة
وقال د. وائل ل(اليوم التالي) الأسعار الجامحة أدخلت قيمة العملة السودانية في تلك الحلقة الحلزونية في اتجاه الدهور المستمر والمتواصل للقوة الشرائية للعملة السودانية، حيث لا يمكن إيقافها في ظل سياسات إطلاق العنان أو تحرير آليات العرض والطلب للأسواق في اقتصاد الأجور المنخفضة وغير المنتج لبدائل ما يستهلكه من الخارج، هذا بغض النظر عن الموضوع الجدلي عن مسألة الاستقرار الهش لأسعار الصرف تحت ضغط التضخم الجامح السائد حالياً، والذي يعيد توزيع الدخل القومي لصالح الأغنياء على حساب الفقراء ذات القاعدة المتسعة، خاصة في ظل المقاطعات الدولية تجارياً ومالياً .
الاقتصاد المعيشي
ويعتقد أنه في ظل هذه الظروف، حتما تزداد القيمة الاسمية للمنصرفات الأسرية للحصول على كميات متناقصة من الاحتياجات، حتى الضرورية اليومية ويزداد اعتمادها على المعونات الخارجية للأقرباء أو على الاستدانة المتنامية الحجم، مع استمرار عدم قدرتها على تنمية مصادر دخل الأسرة المستقلة لزيادة دخلها على الأقل بنفس نسبة الزيادة في المنصرفات المضاعفة اسمياً مقابل المطلوبات المنزلية المتناقصة الكمية يومياً، واستدرك تاريخياً.. تلجأ هذه الفئات ذات الدخل الضعيف إلى ما يعرف بالاقتصاد المعيشي، الذي لجأت إليه العديد من الشعوب عبر التاريخ، خاصة في مواجهة الأزمات الاقتصادية، وأوضح.. نفس هذه الظاهرة للحل الجزئي للفقر في البلدان الذين يسكنون حتى في الشقق الحديثة، وذلك لتتمكن من تلبية الحد الأدنى من احتياجات الأسر الضرورية اليومية، والتي قد لا تلبي بالضرورة، في الكثير من الحالات، لافتاً إلى احتياجات العلاج والتعليم وربما صلة الأرحام، ناهيك عن بعض سبل الترفيه نتيجة لضعف الدخل النقدي الذي تتهالك قوته الشرائية بفعل الارتفاعات المستمرة في أسعار تلك الخدمات (وحتى الخضار)، ونوه.. لكن مع التعليم الجامعي أصبحت بعض الأسر تترفع عن هذا الحل التقليدي عبر التاريخ، والذي قد لا يكون له بدائل في ظل البطالة المرتفعة وعدم القدرة على مضاعفته، هذا إن لم يكن زيادة دخلها على الأقل بنفس مضاعفة المنصرفات اليومية في استمرار الأسعار في الارتفاع المتواصل.
اللجوء للاستدانة
وأكد د. وائل من هنا ينتقل الحل على كاهل الدولة في حتمية تدخلها لتحسين إدارتها للأسواق وتنظيمها لاستقرار الأسعار، لكن يسبق ذلك حتمية قيامها بتحسين سياساتها الاقتصادية الكلية، وتابع: لتزداد قوتها وقوة فعاليتها لصالح الفقراء والعاطلين عن العمل، وذلك بإكمال الجهد (المدني) المتحقق حالياً في التغلب على الحصار الدولي الحالي وتجاوزه بالحفاظ لاحقاً على الانفتاح على العالم، وقال.. بغض النظر عن قضية عدم سيطرتها على المال العام وعدم سيطرتها على أداء الجهاز المصرفي؛ بسبب قناعات فكرية أصبحت عقبة كؤوداً في تحقيق التوازن الكلي للاقتصاد السوداني لتمكين المواطنين من العيش الكريم للعيش دون اللجوء للاستدانة أو الاعتماد على الغير (حتى لو كانوا من الأقارب).