علي مهدي يكتب: أدوار الفنون في عصر الحضارات الكونية .. تقدير مسافة الأمان وإدراك مسافة الجمال

 

صِنَاعَة السَّلام أدوارٌ تتبادلها أطراف الشراكة المُستنيرة لفض النزاعات بالفنون والوعي المبكر

برامج السَّلام تبدأ في المُمكن وتغرق بعدها في المُستحيل.. حول العالم كان مسرح البقعة يُشكِّل الحُضور الإبداعي البديل للعُنف

عُدت يا سادتي انظر من مسافات أقرب، لحظة فاتتني، لم ألحق بها، بالتفاصيل كلها فيها، لكني فهمت الإشارات في عمقها لا في أطرافها، وتلك من موازين النظر من بعد الحدث، قد تكون ناجعة، وإن فاتتك المُشاركة في صنعها، أو الإحاطة بها ظرف زمان
ومكان. وفي الفنون الفرص مُمكنة. خاصة إذا ما ترتبط بفضاءات تتّسع فيها المشاركة، كأن تأخذ عرضاً من مُعسكر للنازحين في (أبو شوك)، غير بعيد عنها (فاشر) السلطان، فيه كل آيات الجمال، يطير بالقدرة الفنية مع الرقي، وتدثّرت أطرافه بالفنون التقليدية تفوح من ثنايا عُمقه، روائح الغناء الشعبي، وتثني في مناحيه فاتنات برقص معطون في التواريخ المجيدة المُشتركة لشعبنا العظيم، بهذا الجلال والجمال يطير عرضي (بوتقة سنار) الى القاعة الفسيحة في القصر الملكي الكبير القديم في مدينة (مدريد -إسبانيا) بملكها العتيق، والجمهور والحاضرين من صناع المسرح العالمي في واحدة من المؤتمرات العالمية، وفي تلك الأيام خطوت أقرب للقيادة نائباً للرئيس للهيئة الدولية للمسرح ITI بالانتخاب الحر المباشر، ورئيساً للجنة الهوية والتنمية الثقافية CIDC ، والقاعة واهلها تقف إجلالاً لأجراس ترن فترن وترن، وصوت النوبة المدوي يطير، ويملأ الفضاء، والمكان ينتقل بالقدرة ذاتها، قُدرات الفنون إلى أبعد ما نحلم به، سلام في سلام، بلا عنف، واصعب العنف عنف الأهل، يوم تغيب الإدراكات ، وتسود نعرات ما تُساعد إلا على الخسارات، والموت هنا أقلها، هناك خسارة كبرى بعد الموت، يدركها الأطفال والأرامل. نعم كان العرض في ذاك المساء المدريدي البهي يحمل فرحة الأطفال في معسكرات النازحين، يوم نزورهم كنا نقدم عروضا صغيرة، أو نلعب الألعاب الصبية، أو نفتح مراكز لمعالجة الآثار النفسية، تتركها لحظات الاقتتال عليهم، وروائح البخور والغناء الجميل انتشرت في نواحي (مدريد) كلها، لا القصر الفخم. نعم تلك آيات الجمال، ويدور بعد عرضك الآخر الزمان، تأخذه من معسكر لبعض أبناء الوطن الواحد، يوم كان واحدا، معسكر من معاني النزوح القهري في عز أوقات الحضارات الكونية، غير بعيد من البقعة المباركة، إذا مشيت حافياً جوار النيل الأبيض في اتجاه الجنوب، تصل (جبل أولياء) الخزان الأول، والبيوت الخاوية إلا من أهلها العظام، تئن من حزن السكن الضعيف، والفقر والترحال. معسكر للنازحين من بلد واحد، وحرب مشتركة، وعناد أهلها السياسة، وإصرار مُبدعي الأمة، لما أدركوا أنّ الصّمت ليس فيه كلام، وتنقّلوا بينها المدن والإشارات الموريات الزكية. والعرض ذاك وفي تلك الظهيرة، يحيلها وأهلها الى غاياتها الكبرى. الفنون تدفع فيهم فرصا تقترب من الأمل الممكن. ثم لأنها حاولت أن تعبر عنهم باللغة الممكنة، مشاهدٌ وصورٌ كوّنتها من حكايات لا فيها جملة واحدة كلمة بلغة منطوقة، ولا واحدة، أخذتنا لعواصم المعمورة، ولأنها عبرت عني والفريق التمثيلي لمسرح البقعة، نظرت لها بعين التقدير والمحبة، وتلك الفرجة (بوتقة سنار) في عرضها الأول في المدينة الأحب الى روحي (نيويورك)، تحيل قاعة مسرح (لماما). وهو فكرة ومشروع ومشوار صادق جاد للصديقه المسرحية الأمريكية (الن استيورت)، رحلت وتحقق حلمها، بتقديم الفرجة التمثيلية الاحتفالية بعد عرضها في (مدريد) على مسرحها الأشهر، وفي مناسبة كبرى، وكنا في جماعة (مسرح بلا حدود) وهي مبادرة لمجموعة من الفنانين من أنحاء العالم، قصدنا أن نؤسس فكرة، مبادرة، لا منظمة لها هياكل.
ونجحنا في أن تبقى حاضرة حتى الآن، نتبادل الأفكار، وانتقل بين مُدن العالم أقدم أوراقي، أو أشرح مفهوم المسرح في مناطق النزاع، تصاوير أو حكاية وأغنية. وكان لقاء المسرح والسياسة في مدينة (نيويورك) مؤتمراً كبيراً نُظِّم بالتعاون مع مجموعة مسرح الاتصال الأمريكي TCG على مسرح (لماما)، خارج (بردوي) شارع المسارح الكبرى والعروض الضخمة، لكنها أسّست مركزاً ومسرحاً ليعبر بالقدر المُستطاع عنها التجارب التمثيلية الجديدة، فقالوا عنها تلك العروض خارج (بردوي).
ولما تحدثت إلى صديقي الراحل المخرج والمؤسس للمسرح المعاصر بتجاربه الفريدة (بيتر بروك)، التقينا أول مرة في البرازيل نشهد معاً السوق الثقافية الدولية في مدينة (سلفادور بهية)، ثم بعدها كنا نتزاور ونلتقي في (باريس).
شاهد عرض الفرجة بين (بوتقة سنار) يوم عرضها الأول على مسرح (لماما). سألته وحديثنا يومها طال، حسبت الوقت بعدد فناجيل القهوة. قال (ذاك عرض جميل وأنا سعيدٌ لأنّك لم تستعمل جملة حوارية واحدة منطوقة بكل اللغات، الإشارات عندك غنية وهي تجربة شجاعة، أن تأخذ هكذا عرض إلى معسكرات النازحين، ثم مسارح وفضاءات كبرى من (مدريد) إلى (نيويورك) وغيرها من المدن، أنت يا صديقي أضفت جديداً. عندي هذا عرض خارج (خارج بردوي).. نعم إنه مغاير) وطلبنا فنجان قهوة جديد.
وانظر معي كيف ذاك الشتاء في (جنيف) ألبي دعوة الأمم المتحدة ومكتبها الأوروبي دعوتهم الكريمة للتشاور والحديث للمُشاركين في مؤتمر عالمي للسلام، هي زيارة ليوم وأكثر وأسعى لإكمالها بلا تأخير رغم المُغريات، الأهل والأحباب هناك والعزائم (قراصة وتركين)، لكنه كان على العودة للمشاركة في اجتماع المكتب التنفيذي للهيئة الدولية للمسرح في مدينة (مدريد) ونحن نعمل في الإعداد والتحضير لانعقاد المؤتمر العام في مدينة (سوقافيا).
فلما دخلت القاعة الكبيرة يومها في المبنى الأجمل، و(سويسرا) احتفت ذاك المساء بي وآخرين من مبدعي العالم، نتشارك ونمشي تحت رايات (اليونسكو) وكالة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم، والشتاء يسيطر بكل العنفوان، لا رقة تنشدها ممكنة. وعِمّتي تختال بذات لونها الأخضر الأخّاذ. والمساء فيها مدينتي الأحب وهي تحتفي بلقاء أممي من أجل السّلام، غير بعيدٍ من البحيرة، تزين المدينة الساحرة، بطلةٍ على أزهارها، يمشي بعضها في أحسن الأحوال، لا ضحكة تضج بالصمت الراتب، ولكنها فيها نفرة الغزلان، والزهرة في مكانها تتمايل، والزهور الأخريات العابرات على عجل تؤكد لك، أنت غير بعيد من وسطها مدينة وأنت بخير.
كان برنامجي القصير فيها، لقاءً مع شركاء التنظيم، شركات كبرى تعمل في مجال دعم الأنشطة الإنسانية، تُقدِّم مُساعدات وقتها للمتأثرين بالنزاعات، وما أكثرها وقتها في العالم، وأفريقيا مركزها. البرنامج كان ليوم واحد، عدد كبير من الموسيقيين والمغنين من مختلف أنحاء العالم حضروا برنامجاً مشتركاً عالمياً، غناء وموسيقى متميزة، فتيان وفتيات في جمال لا أجمل من زهور المدينة، شكّلوا الفريق الغنائي. كنت قد حضرت قبلها في مدينة (روما) تمريناً وآخر، وأسعدني ذاك الاهتمام الكبير من الشركات الراعية لهذا البرنامج الأممي. وكنت في تلك الأمسية من المُتحدِّثين، عرضت بالتصاوير كيف عَمّ الغناء البهيج المُعسكرات، وأحال النزوح ومآسي الاقتتال إلى حكاية قديمة، وأخرى أقدم، ثم رقصوا مع الفرح، لما حكيت كيف كنا في معسكر (السريف) بعيداً عنها مدينة (نيالا)، جئنا صباحاً باكراً، ومشينا مع الناس والأطفال وجمهور تشكّل بسرعة، وفي العادة كنت أسأل الجمهور، أي الأماكن تصلح لبناء الدائرة؟ لنتشارك في تكوين العرض، ومشينا قليلاً، ثم اخترنا المكان، والتفّ الناس من كل الأجناس والأعمار حولها، صنعوا محفلاً كبيراً، جاءوا للاحتفال، ونحن محتفلون، فهو محفل يحلم بالسلام، ثم أكملت حكاية السيدة الجميلة، طلبتها للمُشاركة في الرقص معنا، تمنعت، كانت فوق الثمانين من عمرها، تخفي وجهها وبين ما تخفيه تطلع الابتسامة من العيون وضّاحةً، تدخل المكان قبل القلب، وبلا تردُّد سكتت، ولما دقّت الطبول بنغمة وإيقاع من عند أهلها، اندفعت للساحة ترقص بخفة وجمال وجلال، وكأنها في السابعة عشر من عمرها، رقصت ووقف الناس إعجاباً وفرحاً، حتى الفنانين والمنظمين وقفوا، وأكملت فعلها النبيل ووقفت. بعدها مشت نحوي سألتني:
– إنت من وين يا ولدي.
– قلت كما ينبغي وشرحت فعرفت أهلي.
– تسلم، أسمع أنا لي سنوات لا غنيت لا رقصت جنس ده، تسلم أنا ما عندي ليك حاجة، لكن هاك الحجر ده من بلدنا خلي معاك، يحفظك.
– ثم خرجت وغابت في الناس، لكن ضوؤها يحيط المكان. وبات الحجر عندي، والقصة حكيتها يوم منحوني جائزة (حرية التعبير العالمية)، ويوم وقفت في تلك الظهيرة أحاضر في مكتبة (الكونغرس الأمريكي بواشنطن)، مررت على الحجر في جيبي، وأدركت أنها تقف في آخر القاعة تبتسم. وذاك المساء في القاعة الكبرى لمبنى الأمم المتحدة في (جنيف)، أدخلوني من باب خاص، يجلسوني في المُقدِّمة، تقدمت بعد سماع اسمي نحو المسرح، والفريق الموسيقي والغنائي الدولي وقف لي تحيةً وترحيباً، وكنت سأحكي باسمهم وعنها تجربة الغناء للسلام في فريق دولي. وانحنيت لهم مقدرًا الترحيب البديع. ثم قلت ما قلت، وحكيت قليلاً وتابعوا بعدها الشريط المصور، ولمحت بين الحضور طبيب وجراح القلب المصري العالمي مجدي يعقوب واقفاً يصفق بعد انتهاء كلمتي القصيرة، ونجوماً آخرين جالسين. وتذكّرت من التصفيق وقفتي على مسرح قاعة الصداقة غير بعيد عنه النيل الأزرق في ختام واحدة من عروض مسرحية (هو وهي) الكبيرة وأنا أعود لتحية الجمهور كلما ارتفعت وتيرة التصفيق، نعم المشهد هنا وهناك واحد. لكنه الأجمل يوم انتهى العرض في ميدان البرهانية ومدينة (الجنينة) تفرح بنا ويأتي أكثر من إثني عشر ألف متفرج لحضور الفرجة (بين سنار وعيذاب)..
– تحياتي منها فجيرة النور، أمضيت أيّاماً طيبات هنا، أبحث، أعمل، وأكتب، وكلي سعادة بترحاب الناس القيافة وأهلها الأطيب
– وكل دهليز والوطن في أحسن الأحوال.
آمين

Comments (0)
Add Comment