لماذا النظام المالي المزدوج مفيد لتجربة التأمين الإسلامي؟

أ/ خباب النعمان
ينطلق هذا المقال من فرضيات رئيسة هي أن التأمين في جوهره عقد مستحدث ربما تشابه عرضاً مع بيع الغرر لانطوائه على الجهالة المفسدة لعقود المعاوضات المالية، وذلك بحسب المذهب المالكي إذ أن المذاهب الأخرى ترى أن الغرر يؤثر أيضاً في عقود التبرعات! بيد أنها تشترط فيه أن لا يكون كثيراً أو في المعقود عليه أصالة وأن لا تدعو للعقد حاجة واشترط في الحاجة أن تكون عامة أو خاصة من جهة وأن تكون متعينة من جهة أخرى والفرضية الثانية أن سعة الفقه الإسلامي جعلت مناقشة تجويز العمل بالتأمين التقليدي أمر سائغ كما جاء في مهرجان ابن تيمية المنعقد في 1-6 أبريل 1961م بمدينة دمشق حيث قدم أربعة بحوث عن عقد التأمين من وجهة النظر “الشرعية” أجاز بحثان التأمين بنوعيه التجاري والتعاوني هما بحث الأستاذ مصطفى الزرقاء وبحث الأستاذ عبد الرحمن عيسى ومنعه بحث الأستاذ عبد الله القليقلي بنوعيه وإن كان يفهم أن المنع للتأمين التجاري، أما البحث الذي حفر في أطباق الفقه ومناهج المعرفة على نحو مبدع فهو بحث بروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير الذي كان أستاذ حينها وقد جاء بمعالم نظرية تأمينية جديدة تتماهى في أصولها وغاياتها مع بنية الأخلاق الإسلامية وتقطع مع رصيد التجربة الاستعمارية التي أتى التأمين في بوارجها وعبر غاشياتها وقد سبق لي أن ألمحت أن الشيخ الضرير كان يبحث بعمقه المعهود عن مقاربة جديدة فهو لم يرفض التأمين التجاري لأنه ينطوي على غرر فاحش مثل بيع الثمر قبل نضوجه فقط وإنما لأنه يحمل غرر أكثر فحشاً كونه يبيع ثمار النموذج الغربي بحجة عدم نضوج نموذج الإسلام أو على الأقل هذا هو الجانب المسكوت عنه في قصة التأمين التعاوني، الفرضية الثالثة أن التأمين في السودان له جذر في الحضارات القديمة وقد نشأ في بادئ الأمر إسماحاً ليلبي حاجة اجتماعية متعلقة بجمع تبرعات للدفن والتحنيط فيما عرف بجمعيات دفن الموتى ولكنه غدا مع الطور الاستعماري ممأسساً ضمن الوكالات الأجنبية التي تم سودنتها قبل أن تدرك التجربة التأمينية بوادر الأسلمة والتي نشأت أيضاً إسماحاً في أول الأمر قبل أن تفرض على أسنة القوانين مع نظام “الإنقاذ” في العقد الأخير من الألفية الثانية لتعود الأمور مع زواله إلى طبيعتها وضمن طور الانتقال الماثل حيث تم إقرار استعادة النظام المالي المزدوج الذي يسمح بوجود شركات تأمين تعمل بموجب نظرية التأمين التعاوني وشركات أخرى تعمل بموجب مبادئ التأمين التقليدي.
هذه الفرضيات تجعلنا نزيح قليلاً سدف القداسة التي رانت حين من الدهر على قضية التأمين التعاوني وألقت بظلال سالبة على إمكانات التطوير والتثوير والتغيير في آفاقه وجعلت كثير من العاملين في فضائه مأخوذون بمزاعم الريادة والأصالة عن استحقاق التطوير والتجاوز وفي هذا مبحث مهم عن أثر الإسلام السياسي في تحويل التجربة إلى شعار والاعتناء بها من هذا الجانب أو قل التركيز على تسويقها أكثر من تعهدها بالإصلاح فضلاً عن جمودها على المقولات الرئيسة للشيخ الضرير وأبرز تجلي لهذا الأمر هو ما أسميه “توثين الفائض التأميني” مع أن الفائض والعجز مدارهما على مدى دقة حساب الأقساط لإدارة المخاطر ففي التأمين التجاري فائض الأقساط حق لحملة الأسهم أما في التأمين التعاوني فهو حق للمشتركين فقط وقد نص الشيخ الضرير نفسه على إمكانية تخصيص الفائض كله أو جزء منه كاحتياطي عام أو احتياطيات أخرى واعتبار ما يخصص تبرعاً من المشتركين. غير أن التجربة العملية جعلت من الفائض مؤشراً لمدى صوابية وحقانية الممارسة التأمينية وهذا من أثر غلبة الشعار على الوقائع الموضوعية وما زالت وظيفة رأس المال في تجربة التأمين التعاوني تأخذ بناصية العقول فرغم التدابير والسياسات التي اجترحتها بعض النماذج إلا أن التأمين التعاوني لم يعد جاذباً للاستثمار بشكل قاطع وما زالت التجربة التعاونية تقتات على موائد الإبداع التجاري على صعيد الوثائق والتغطيات ولعل من نافل القول الإشارة إلى أن الفكرة التكافلية تم تركيبها على واقع ممارسة نشأت ضمن فلسفة ورؤية مغايرة لها لهذا فإنك لن تجد روح التكافل في تفاصيل الممارسة العملية إلا حالات متفرقة للسداد الإكرامي وحتى هذه لا تمارس بعدالة مع كافة المشتركين وإنما لمزيد من الاستمالة لبعضهم وأحيان كثيرة لمن لا يستحقون!.
وبالعودة إلى السؤال أعلاه وهو كيف أن النظام المالي المزدوج يمنح التأمين الإسلامي فرصة للنماء فإن التجربة العالمية أكدت على هذا الاستخلاص لأنها أعادت العلاقة إلى واقع المناجزة وفتحت الأفق أمامها إلى أقصى طاقات التطوير والتفاعل وأرجعت تخليق عناصر النجاح بإرفاد النموذج الغربي بالمعاني والدلالات والقيم والأخلاقيات والاستفادة منه في ذات الوقت على مستوى الأنظمة والمعايير والأساليب في التغطيات والمزايا ضمن صناعة تأمينية راسخة ومستمرة ومؤثرة ومتكاملة مع سياقات الحداثة الفائقة وموجاتها العالية التي غمرت كل شيء ولم ينج منها مستعصم بجبال التراث أو تراث الجبال وقديماً قال فرانز فانون كيف نهرب من الغرب؟! الغرب يسكننا! نقولها هاهنا بتعديل طفيف لا منجاة من الحداثة ولا مهرب فهي تسكننا..!
وحتى الملتقى..!
مدير الإعلام بشركة شيكان للتأمين

Comments (0)
Add Comment