السوداني أحمد النحاس يصور الفن الشعبي في أجمل تلميحاته

 

لوحات تركز على انطباعات الشخوص في رصدها لأفعالهم الاعتيادية.

العرب اللندنية – لم يحاول الفنان السوداني أحمد النحاس الانفصال عن هويته وإيجاد هوية فنية تبتعد عن السودان وتفاصيله، بل جعل لوحاته تصويرا لونيا لتقاليد البلاد والحركة اليومية في شوارعها وتراثها الثقافي ماديا كان أو لاماديّا، فاستطاع بذلك أن يصور الفن الشعبي في أجمل أوجهه ويقدم للمتلقي سردا بصريا عنوانه السودان.

يتجوّل الفنان السوداني أحمد النحاس في مناطق الفن الشعبي البعيدة عن الالتزام الأكاديمي، فأعماله تحاكي رسومات المقتنيات الشعبية مثل السجاد والأواني الفخارية والنحاسية والمنحوتات العاجية وما بها من رقش وتزيين ورسومات بعض الجدران بجوار المقاهي والأسواق القديمة التي تصاحبها إعلانات ورموز تتجه إلى التسويق والدعاية للمنتج أو لمحلات الصنائعية والحرف التقليدية ومحلات الحلاقين وغيرها.

ومن الملامح الرئيسية لتلك الرسومات خطوط خارجية تحيط بالأشكال المرسومة ولا تعتمد على البعد الثالث بل اللوحة دائما مسطحة والإنسان مرسوم فيها من الأمام تقريبا بشكل كامل أو من الجانب بشكل كامل أيضا.

ويعتمد الفنان على كثرة الزخرفة وتعبئة الفراغات بالكثير من الجمهرة حتى يشعر المتفرج بأن الأعمال دائما تحاكي الازدحام في الأسواق والمقاهي والأعراس والمواسم التي يشتهر بها السودان، بمفردات غالبا ما تكون دون ملامح وأزياء متنوعة وألوان متعددة صريحة وطازجة تقترب من نسيج الروح، وطريقة رسمه أكثر تلقائية من الفنون التي تعتمد على فلسفات ونظريات فن الرسم الحديث أو التي تم التنظير لها مسبقا في قوالب جاهزة دون أي تغيير بل هي مساحات مفتوحة للتأمل والتبحر في ملكوت النفس البشرية التي لا يحدها شيء.

والفنان النحاس الأكاديمي والدارس للفنون، هو خريج بكالوريوس فنون قسم تلوين من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، يلتقي مع الفنان الفطري الذي يشتغل على هذا النوع والذي يدرك أن طريقه مليء بكنوز الفن الأولى التي تبعث على الدهشة والمتعة البصرية لما فيه من غرائبية التكوينات وانسجام فطري لكل الألوان مع تركيزها وقوتها التعبيرية بتجاور غير مدروس علميا، بل هو يتكئ على تقديرات روحية عميقة تفضي إلى هذه النتائج الجميلة، بفارق أن الفنان أحمد تتجلى بعض مهاراته في تكوينات الجسد وأوضاعه في الجلوس والوقوف من وقت إلى آخر بخلاف الفنان الفطري صاحب المنهج الساذج الذي يخوض غمار التجربة بروحه المتقدة فقط.

وعادة ما يتم الرسم دون التركيز على تفاصيل الحكاية، كأنها عملية مرور عابر لسرد سيرة الألوان في مكان ما، احتفاﻻت الموسم، الأعراس، مقهى ملون من حكايات البشر وحياتهم، حركة الأسواق الشعبية من المتبضعين في موجات متعاقبة ملونة تتحرك بشكل دائري في اتجاه حركة الفرشاة. ﻻ يمكن أن تلمح إﻻ الأزياء وبعض التفاصيل التي تميز بين الرجال والنساء والبضائع المعروضة وأغلبها من الأقمشة الملونة أو محلات العطارين المرسومة وأشكال بضاعتهم في دوائر ملونة تحوي جميع الألوان من بقع وضربات فرشاة الرسم التي يمكن أن تراها، بالإضافة إلى محلات الأواني المنزلية المتنوعة في أشكالها

والمختلفة في ألوانها وأحجامها ويغلب على ظاهرها البلاستيك الذي غزا العالم كله.

وتصور لوحات الفنان السوداني جلسات المقاهي وحديث المساء في أشكال لغة الجسد البشري من المتكئ والمنحني والواقف باهتمام والجالس بكبرياء والهائم في ملكوت روحه والمنصت للمذياع، إلى خبر ساخن أو موسيقى سودانية تأتي من بعيد، وهي مشاهد تتخذ من الموروث السوداني الأصيل منهلا لتلك الأعمال في قالب معاصر من الفهم التشكيلي وبحس فطري في الظاهر. ولكنْ يستخدم الفنان مهاراته المكتسبة في توزيع المفردات المرسومة بشكل واع؛ فهي ليست كتلك الموجودة في الرسومات الشعبية متراصة في ترتيب سيمتري ممل بل هناك تناغم في الألوان بين الصريح المضيء والقاتم، بين الفراغ في أجزاء من الأعمال وازدحام في أجزاء أخرى، بين نقاط وكأنها نوتات موسيقية تضفي على الأعمال خلفيات تزيد من أناقة المشهد ولمسات في تفاصيل بعض أجزاء الجسد عند المرأة وعند الرجل.

وتظهر رشاقة الرسم عند الفنان في زوايا صغيرة مثل التي أشرت إليها، وكتلك التي أبهرنا بها بيكاسو في تكعيبياته أو شاغال في أعراس متخيلة من أعماله؛ فتفاصيل اليد في بورتريه لبيكاسو أو تشريح رأس الحصان لشاغال يكشفان عن مهارة كبيرة يتم توظيفها عند الضرورة الفنية.

ومن أجمل ما عند الفنان أحمد النحاس قدرته على إبراز انطباعات الشخوص المرسومة عنده دون الحاجة إلى التأكيد على إظهار الملامح بشكل أكثر واقعية بل يعتمد الاختصار. والتجريد هو الأقرب إلى منهجه وتجد هذا في لوحات عديدة مثل لوحة حفل الشاهي وعرس سوداني وحفل الدفوف في المواسم، تقترب لتكتشف أن ما يسيطر على الأعمال بعض قوة التلوين وتجاورها في تناغم مليء بالبهجة، هي الإيماءات التعبيرية يدركها المتلقي ويدرك معانيها أيضا.

ويمكن أن تجد كل القصص مجتمعة في عمل فني واحد، بمثابة نوع من التفكير بالرسم في مشاهد متعددة كأنها تمر بشكل سريع على ذاكرة ملونة من أحاديث المساء في مقهى الأصدقاء، والراعي مع أغنامه، ومشهد العودة من السوق، ورجل يحكي همومه لزوجته، وبائع جوال، والأرجوحة في زمن اللعب، ونساء في رفقة ملونة من أزياء سودانية جميلة، وشاعر متكئ على زمنه الخاص، كل هذا وأكثر هو في حقيقته حياة بأسرها تنضح بجمال معانيها في لمحات من الذاكرة.

وتجدر الإشارة إلى أن أحمد التجاني إبراهيم النحاس من مواليد 1972، رسام كاريكاتير وفنان تشكيلي، عمل رسام كاريكاتير في العديد من الصحف والمجلات السودانية، وهو عضو في الاتحاد العام للفنانين التشكيلين السودانيين وفي جمعية رسامي الكاريكاتير السودانية.

نظم الفنان العديد من المعارض الفردية والجماعية منها معرض فردي بعنوان “القناع الأفريقي” في صالة كايرو بوكس بالمعادي في القاهرة، والمعرض الجماعي الذي بعنوان “عرس الزين” في بيت الخليفة بأم درمان في السودان، وغير ذلك من المعارض.

Comments (0)
Add Comment