يستعد السودان لبدء مرحة انتقال سياسي جديدة إثر توقيع الجيش السوداني ووالقوى السياسية المدنية، الاثنين، اتفاقاً يمهد الطريق لتشكيل حكومة انتقالية مدنية.
يأتي ذلك بعد مرور أكثر من عام على انفراد الجيش بالسلطة عقب إعلان حالة الطوارئ في البلاد في 25 أكتوبر 2021، وإقالة شركائه المدنيين في مجلس السيادة والحكومة التي كانت تتولى قيادة البلاد نحو المسار الديمقراطي.
ومنذ ذلك الوقت، شهد السوادن تظاهرات واحتجاجات شبه أسبوعية، فيما تعمقت الأزمة الاقتصادية في السودان، بعد أن علقت الدول الغربية المساعدات المالية التي تدفقت على هذا البلد عقب الإطاحة بالرئيس عمر البشير في 2019، إذ اشترطت عودة الحكم المدني لاستئناف صرف المساعدات.
ويحد الاتفاق الجديد من الدور الرسمي للجيش وسيضعه في إطار مجلس للأمن والدفاع برئاسة رئيس الوزراء، لكنه يترك قضايا حساسة بما في ذلك العدالة الانتقالية وإصلاح قطاع الأمن لمزيد من المحادثات.
أزمة شركاء الحكم
بدأ السودان مسيرة التحول إلى الديمقراطية بعد انتفاضة شعبية أطاحت في أبريل عام 2019 بحكم عمر حسن البشير، الذي حكم البلاد لنحو ثلاثة عقود.
وبموجب اتفاق أُبرم في أغسطس 2019، وافق الجيش السوداني على تقاسم السلطة مع ائتلاف قوى إعلان الحرية والتغيير الذي كان يقود الحركة الاحتجاجية آنذاك. ونصّ على فترة انتقالية من ثلاث سنوات تم تمديدها لاحقاً.
وظلّت الأزمة في السودان بين المكونين المدني والعسكري في الحكومة الانتقالية، مكتومة منذ أشهر، قبل أن تتفجر في 21 سبتمبر 2021، بعد محاولة “انقلاب فاشلة”.
عقب المحاولة الانقلابية، التي أعلن المجلس السيادي إحباطها، تبادل الطرفان الاتهامات بالسعي للانفراد بالسلطة، وتحميل المسؤوليات عن تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية والمعيشية، ما أدى إلى تظاهرات واسعة في الشارع السوداني، بطلب من المكون المدني الذي يشهد بالأساس انشقاقات داخلية.
وفي 25 أكتوبر 2021، تعطلت ترتيبات اقتسام السلطة بين المدنيين والجيش، بإعلان الجيش السوداني حالة الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء الذي كان يقوده عبد الله حمدوك.
ومنذ ذلك الحين، ينزل سودانيون إلى الشوارع كل أسبوع تقريباً للاحتجاج على انفراد الجيش بالسلطة، وللمطالبة بعودة الحكم المدني.
أبرز نقاط الخلاف
تتعلق إحدى نقاط التوتر بين المدنيين والجيش بالسعي لتحقيق العدالة بشأن مزاعم ارتكاب الجيش السوداني وحلفائه جرائم حرب في الصراع في دارفور منذ عام 2003. وتسعى المحكمة الجنائية الدولية إلى محاكمة البشير وسودانيين آخرين مشتبه بهم.
نقطة أخرى هي التحقيق في قتل متظاهرين مطالبين بالديمقراطية في الثالث من يونيو 2019، في واقعة اتجهت فيها أصابع الاتهام لقوات عسكرية. ويثير التأخر في نشر نتائج هذا التحقيق غضب النشطاء وجماعات مدنية. وتطالب القوى المدنية بتحقيق العدالة بشأن مصرع أكثر من 100 شخص على يد القوات الأمنية خلال احتجاجات منذ إعلان حالة الطوارئ في 25 أكتوبر 2021.
كما ضغط المدنيون من أجل الرقابة على الجيش وإعادة هيكلته، لا سيما من خلال دمج قوات الدعم السريع شبه العسكرية التي لها وضع قوي، وهو الأمر الذي يعارضه القادة العسكريون. ويطالب المدنيون بتسليم حيازات الجيش المربحة في قطاعات الزراعة والتجارة والقطاعات المدنية الأخرى.
اقتصاد متعثر
كانت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، التي تسببت في تهاوي العملة والنقص المتكرر للخبز والوقود، الشرارة التي أدت للحراك الذي أسقط البشير في 2019.
وأحيت الحكومة الانتقالية التي تولت السلطة بعد إسقاط البشير (حكومة عبد الله حمدوك)، آمال السودانيين في تحسّن أحوالهم، إذ رفعت واشنطن بلادهم من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وعادت المساعدات الأجنبية التي ناهزت ملياري دولار سنويا.
ونفذت الحكومة الانتقالية إصلاحات قاسية وسريعة تحت إشراف صندوق النقد الدولي في محاولة نجحت في جذب التمويل الأجنبي وتخفيف الديون.
لكن الدعم الدولي البالغ قيمته مليارات الدولارات، بالإضافة إلى إجراءات تخفيف الديون، توقفت بعد انفراد الجيش بالسلطة في 25 أكتوبر2021، مما ساهم في ركود الاقتصاد وتدهور الوضع الإنساني.
وما بين تضخم تخطى 100% ونقص في المواد الغذائية، يعاني ثلث السكان البالغ عددهم 45 مليوناً من الجوع. وبسبب نقص الإمكانات، خرج 7 ملايين طفل من التعليم، بينما ينظم الموظفون والتجار إضرابات بشكل منتظم احتجاجاً على غلاء المعيشة.
“آلية ثلاثية” للحوار
في مارس الماضي، أعلنت “الآلية الثلاثية” المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومنظمة “إيقاد” عن نفسها، وذلك لتوحيد الجهود الدولية في حل الأزمة السودانية بعد إطلاق بعثة الأمم المتحدة لمبادرتها في يناير.
ووضعت الآلية المشتركة 4 قضايا أساسية للنقاش، هي: الترتيبات الدستورية، وتحديد معايير لاختيار رئيس وزراء وحكومة، إلى جانب برنامج عمل يتصدى للاحتياجات الضرورية للمواطنين، وتحديد جدولة زمنية وعملية للانتخابات.
وفي 8 يونيو الماضي، انطلق حوار “الآلية الثلاثية”، في الخرطوم، وسط دعم دولي تقوده الرباعية الدولية، فضلاً عن دعم الاتحاد الأوروبي، ووسط تعهد رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان بتنفيذ مخرجات الحوار.
وتغيب عن الاجتماع قوى إعلان الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، مرجعة السبب إلى عدم تنفيذ إجراءات تهيئة المناخ السياسي بإطلاق سراح المعتقلين ووقف العنف ضد المتظاهرين. كما امتنعت لجان المقاومة عن المشاركة بدعوى رفض أي تفاوض مع المكون العسكري.
وفي 11 يونيو، أعلن المتحدث باسم البعثة الأممية في السودان، أن الآلية الثلاثية، علّقت جلسات الحوار المباشر، بناء على تطورات عدة، أهمها اللقاء الذي جمع قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) والمكون العسكري بالمجلس السيادي بوساطة سعودية أميركية.
ورحبت الآلية الثلاثية، في بيان صحافي، بالاجتماع بين قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري، داعية جميع الأطراف إلى العمل معاً.
وفي منتصف يونيو، أعلنت قوى “الحرية والتغيير” رؤيتها مجدداً، وتضمنت: “إجراء انتخابات تحت رقابة دولية عقب فترة انتقالية تتراوح مدتها بين 18 إلى 24 شهراً، وإصلاح أمني وعسكري يفضي إلى جيش بعيد عن السياسة، وإنشاء مجلس سيادة مدني محدود العدد (..) لا تكون له أي مهام تنفيذية أو تشريعية”.
واقترحت تشكيل حكومة كفاءات تكون لها سلطات نظام برلماني، ونظام حكم “فيدرالي لا مركزي”، وإنشاء “مجلس للأمن والدفاع برئاسة رئيس الوزراء وعضوية قادة القوات النظامية والحركات المسلحة ووزارات الحكومة المدنية ذات الصلة”.
مشروع الدستور الانتقالي
وفي مطلع يوليو، أعلن رئيس مجلس السيادة عدم مشاركة المؤسسة العسكرية في المفاوضات التي تسهلها الآلية الثلاثية، مشدداً في الوقت ذاته على أن القوات المسلحة ستلتزم بمخرجات الحوار.
وأشار البرهان إلى أنه بعد تشكيل الحكومة التنفيذية “سيتم حل مجلس السيادة وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة من القوات المسلحة والدعم السريع”، قائلاً إنه سيتولى “القيادة العليا للقوات النظامية”، ويكون مسؤولاً عن مهام الأمن والدفاع وما يتعلق بها من مسؤوليات تستكمل مهامـه بالإتفـاق مع الحكومة التي يتم تشكيلها.
وفي 13 سبتمبر، أشاد المبعوث الأممي خلال إحاطة أمام مجلس الامن، باتخاذ الجيش السوداني “قرارات مهمة” في ما يتعلق بالعملية السياسية، لافتاً إعلان رئيس مجلس السيادة عزم الجيش الانسحاب من السياسة، وتأكيدات رئيس قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) على هذا الإعلان.
وفي 10 أكتوبر، أعلنت الآلية الثلاثية اقتراب تحقيق تسوية “مرضية” لكل الأطراف، في حين أشار الممثل الخاص للاتحاد الإفريقي بالسودان السفير محمد بلعيش، في مؤتمر صحافي إلى “حراك تقوده اللجنة التسييرية لنقابة المحامين”.
وفي نهاية أكتوبر الماضي، أعلن الاتحاد الأوروبي و13 دولة بينها الولايات المتحدة، دعمهم لمبادرة مشروع الدستور الانتقالي التي طرحتها نقابة المحامين السودانيين، مشيرين إلى أنها تمثل “إطاراً ذا مصداقية وشمولية” لقيادة المفاوضات السياسية في البلاد.
وفي مطلع ديسمبر الجاري، أعلنت القوى السياسية في السودان التوافق مع الجيش على “اتفاق إطاري”، عقب اجتماع ضمَّ رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو “حميدتي”، بحضور ممثلي الرباعية الدولية، إضافة إلى الآلية الثلاثية وممثلين عن الاتحاد الأوروبي.
وفي 5 ديسمبر، وقّعت القوى السياسية والمكون العسكري في السودان، رسمياً على اتفاقاً إطارياً لتأسيس سُلطة انتقالية مدنية، ينص على دمج قوات الدعم السريع خلال جداول زمنية محددة، وحظر تكّوين الميليشيات والمجموعات الخارجة عن القانون، وأن تخضع جميع الشركات العسكرية لرئيس الوزراء وولاية وزراة المالية، إلى جانب تنفيذ السياسات المتعلقة بإصلاح المنظومة العسكرية.