عزمي عبد الرازق
ثمة اعترافات جريئة وردت في مقابلة أجرتها صحيفة الديلى نيشن الكينية مع عبد العزيز الحلو، قال فيها وبوضوح إن الأوضاع الأمنية ساءت أكثر بالنسبة لشعبي النوبة والفونج في النيل الأزرق بعد الإطاحة بعمر البشير في العام 2019، وتحدث عن عمليات قتل وحشية لمدنيين في كسلا وبورتسودان ولقاوة والنيل الأزرق، وهو بذلك كمن يضع الملح على الجراح، بالإشارة الصريحة لتفكيك جهاز الأمن الوطني، وإضعاف دوره وتحجيم المخابرات العامة، والتعامل معها بعدائية، وإن كان قد جحد بها هو أو غيره، فقد استيقنتها أنفسهم، إذ أن الحلو لم يمنعه الحرج من بذل شهادة ليست مجروحة بالطبع، رغم مناصبته العداء للإنقاذ عموماً!
لا شك أن جهاز الأمن والمخابرات العامة يتعرض لمؤامرة خطيرة تجلت أكثر في أوراق التفاوض بين المكونين العسكري والمدني، وأخرها بالطبع الاتفاق الإطاري الذي أتبع الجهاز لرئيس الوزراء وحدد واجباته ومهامه وميزانيته، وفقاً لما يتطلبه النظام الديمقراطي. بينما نحن وللمفارقة لم نصل بعد للنظام الديمقراطي! كما حظر عليه ممارسة العمل التجاري والاستثماري، وقال إن رئيس الوزراء الذي سوف تعينه مجموعة سياسية هو الذي سوف يعين المدير العام للجهاز ونوابه. ولم يكتف الاتفاق الإطاري بهذا الاستهداف وإنما تحدث عن إجراءات وتدابير لازمة لإصلاح وتحديث جهاز المخابرات العامة، بحيث يزال فيه التمكين، ويؤسس على عقيدة حماية أمن الوطن والمواطن.
صحيح ليست هنالك مشكلة في هيكلة جهاز الأمن واصلاحه إن دعت الحاجة لذلك، ولكن من يقوم بتلك الخطوة؟ أليست أحزاب سياسية تحتفظ بأحقاد دفينة ضد جهاز الأمن، فقط لمجرد أنها ترى في الجهاز عدواً يستحق القتل والتمثيل بجثته، واستقر في ظنها أن البلاد أفضل لها العيش في الفوضى، والتعرض للاختراق الأجنبي من أن يكون لها جهاز أمن قوي، ودريئة من المخاطر الماثلة، وهى قوى سياسية معزولة، بلا تفويض شعبي، وتتسول السفارات والحلول الخارجية للوصول إلى السُلطة، بأي ثمن، ولا يهمها تداعي البلاد، في سبيل تحقيق مآربها، كما أنها وفي خطوة ثانية، وبعد أن ضمنت نزع أظافر الجهاز وتحويله إلى إدارة لجمع المعلومات فقط، وتدجينه بالمرة، كشفت تلك القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري عن نواياها الاستبدادية، ودوافعها الخبيثة، بحيث نقلت سُلطة الاعتقال إلى الشرطة، بعد أن ضمنت سيطرتها عليها، وتحدثت عن قيام جهاز للأمن الداخلي يتبع لوزارة الداخلية فنيًا وإداريًا، ليقوم جهاز الأمن الداخلي هذا بأعمال ذات طبيعة تمكينية، وتصفية حسابات سياسية، سمه البوليس السياسي أو الغستابو إن شئت، كما كانت تفعل لجنة إزالة التمكين في السابق، وهذا أيضاً يدل على أن موقف قوى الحرية والتغيير والموقعين على الإعلان السياسي من الحريات ليس مبدئياً، وأن المبادئ تتجزأ، وأن القضية تتعلق بالسُلطة والسيطرة على الدولة، ولا علاقة لها ذلك بالتحول الديمقراطي المزعوم، فضلاً على أن الإتفاق الإطاري ظاهره تسوية، وباطنه تصفية.
طوال سنوات الانتقال قام جهاز المخابرات العامة بكل ما يليه، وأبلى بلاء حسناً، وأفلح في دوره الموكل إليه كما يجب، رغم أنه لم يسلم من الاستهداف وحفلات التنمر، والتحريض المستمر ضد منسوبيه، ويكاد يكون هو المؤسسة الوطنية التي استحقت وسام الصبر والانجاز، في التعامل مع الأوضاع والتحديات باحترافية، وكان شريكاً للفترة الانتقالية وفقاً للقانون، عمل على سد الثغرات أمام مافيا المخدرات، وعمليات الاتجار بالبشر، سيما وأن السودان يعد معبراً للهجرات غير الشرعية، ولا تخفى أيضاً عمليات الأمن الاقتصادي للكشف عن التزوير والمتاجرة بالدولار، والتخريب الاقتصادي المتعمد، فضلاً على المساهمة المقدرة في القضايا المجتمعية، من خلال حفز المصالحات القبلية وإقامة الفعاليات والورش التنويرية، وتهيئة الأجواء للحريات الإعلامية، إلى جانب مؤتمر سيسا واستضافة قمة البحيرات من أجل الشراكة الاستراتيجية الشاملة تجاه مكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار في أفريقيا، وخدمة قضايا الأمن والسلام في إقليم البحيرات، وكل ذلك الحراك يشير إلى أهمية جهاز المخابرات، وضرورة أن يعمل بعيداً عن الاستقطاب السياسي، والضغوطات الخارجية، وتصفية الحسابات التاريخية، حتى لا تتكرر تجربة حل جهاز الأمن بعد سقوط نظام جعفر نميري في العام 1985، واستباحة البلاد ونهب مواردها ومعلوماتها وارشيفها السري، كما تسعى لذلك القوى الخارجية المتربصة الأن بالسودان، والتي يهمها أيضاً وتلهث خلفه حتف أنفها، تأمين مصالحها ولو أدى الأمر إلى ضرب النسيج المجتمعي وإثارة الحروب الأهلية وصناعة العملاء، وهيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية وفقاً لتصورات أجنبية غامضة، وسوف تفضي بالضرورة إلى إضعاف دور الجهاز ومحوه من الوجود، وترك السودان نهباً للفوضى والدمار والجماعات الإرهابية، كما هو الحال في سوريا وليبيا واليمن، وأبعد من ذلك دون مبالغة.