__________________________
الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
* أما قبل :
هذا المقال مستخلص من كتابنا المؤلف حديثا – غير منشور – تحت عنوان ” عصر البطولة في دار مساليت قراءة ضدية لحالة التضليل في مكونات نسبنا الثقافي السوداني ”
* التوطئة :
الثقافة الإنسانية ، بكل أبعادها ، تراث مشترك بين الناس جميعا ، وأي إنجاز في حياة مجتمع من المجتمعات الإنسانية على وجه الأرض ، هو في تقديرنا ، يعد لصالح غيره من المجتمعات في كل بلاد الدنيا .
وهكذا حياة الناس في كل بلد من البلدان ، فحياتهم الإجتماعية بكل أبعادها ، لا يمكن أن تفهم فهما كاملا ، إلا إذا نظرنا إليهم على أنهم عالم واحد ، لا تنفصم عراهم .
فالناس في شرق السودان مثلا ، لا يمكن فصلهم عن غربه ، باعتبار أن ثقافة أهل الشرق وحضارتهم لم تنشأ نشأة الرهبان ، معزولة في المعابد أو المقارات ، دون أن تلتقي مع آخرين في غرب السودان ، وشماله وتتفاعل معهم .
بذلك المعنى ينهض مقالنا ، بحثا عن الشخصية السودانية ، ونسبه الحضاري من خلال إستقراء التاريخ القديم لمجتمعاته ، وممالكهم وسلطناتهم التي أقاموها في الرقعة الجغرافية من الأرض – السودان – بحدوده الحالية .
فإن كل سلطنة لم تكن بمعزل عن تأثيرات السلطنات والممالك الأخرى .
وبهذا تشكلت المجتمعات السودانية وسارت مواكب تقدمهم .
غير أن واقع الأمر ذلك يناقضه واقع آخر ، نلمسه ونراه ، واقع شاخص في مسألة تصادم المكونات المتعددة للثقافة السودانية .
وذلك نتيجة لحالة التضليل التي ظلت متلازمة هذا البلد ، بتغييب وقائع التاريخ وتعاظم إرادة الإنكار ، والنفي لخيوط من الخيوط المكونة لإنسجة شخصيته ونسبه الحضاري .
ومن المؤسف أنه تم التغييب لصور مشهدية عبقرية ، تشكلت وتحركت في أزمنة جلية ، وأمكنة جليلة ، حملت عوالم من ثراء الأفكار التي تغذت بها حركة تاريخ السودان القديم ، وشعت سطوة تلك الصور المشهدية في واقع الناس .
ودوال هذا التغييب في مسارات حياتنا الآن ، لا تحتاج إلى كثير براهين .
بيد أن السؤال الملتمع ، لماذا حالة التضليل هذه ، عن الإنسجة المكونة للنسيج الثقافي السوداني ظلت من المتلازمات في السودان باستمرار .
ويعزى ذلك أغلب الدارسين في الدراسات السودانية ، إلى إخفاق النخب التي أدارت حراك الإستقلال ، بحكم حالة الإحتلال العقلي التي أطبقت عليها ، وبفعل المؤسسة التعليمية الأجنبية وتأثيراتها السالبة على طلائع المتخرجين من تلك المؤسسات التعليمية الحديثة ، والذين تم إنتزاعهم من مجتمعاتهم المحلية ” مزاجا ووجدانا وروحا ” فأصبحوا مجرد صدى لتصورات الإجنبي المحتل عن السودان ومجتمعاته .
قامت كلية غردون ومدارسها بتشكيل طلائع طلابها السودانيين بذات توهمات مخيال الذهن الإجنبي المحتل عن السودان .
وتكاثف ذلك الركام ، الذي تغذت به تلك النخب ، وبذات فعل التفكير قاموا بتأسيس السياسات ، وإنتاج الرؤى الثقافية والفكرية والأدبية ” شماليين ، جنوبيين ، غرابه ” ، وهو المنظور الأكثر حدة في تضليل وعي السودانيين بذاتهم كسودانيين ، وأخذت المسافات تزداد بين أمكنتهم وجذورهم التاريخية البعيدة ، وتزداد حالة الغيبة وانقطاع النسب ، ضدا لواقع الأمر ، الذي نستقرأ أصل تكوينه المتفرد ، لكونه مولود مخاض طويل العمر ، وغذته روافد أثنية ، وثقافية وروحانية متعددة ، تداخلت أنسجته لتنتج مياسم مائزة في المزاج والوجدان ، وخصائص إجتماعية ، أنتجت مجموعها بنية حضارية مشرقة ، ذات شخصية مميزة مستقلة ، لا تستند مطلقا على مزاعم التفوق العرقي ، إنما تستند على قاعدة التراكم التاريخي والرؤى الجماعية المتفردة في فلسفة الحياة ومواقفها الفطرية الناتجة بالتراكم الخبري .
إن إستقراء تاريخ السودان ، والإستقصاء في الأحداث ووالوقائع ، يضعنا أمام حزمة الأسئلة الشاهقة ، أسئلة هي نتاج الواقع الملتبس ، متتدثرة بالناس والأشياء معا ، أسئلة تعمل على الدفع إلى ماهو أحسن وأجمل ، وتجاوز القبح والبؤس والإنكسارات والإنشطارات والهزائم .
فالخلاصات الفكرية هي دائما تتبلور من خلال التراكم المتزايد والمتكاثر من التجارب .
المسألة السودانية وصور مشهدياته بمستويات حراكه المتنوع المتعدد ” السياسي ، الإجتماعي ، الفكري والتاريخي ” يدفعنا إلى التفكير من زوايا ومحددات جديدة ، وفقا لمقاربات أخرى ، إنفلاتا من ربقة رؤيا الإجنبي المحتل .
* بواعث المقال :
من أهم بواعث مقالنا هذا ، أن الكاتب قرأ يوما فيما قرأ مقالا صحفيا للكاتب الدكتور ” عبدالوهاب الأفندي ” التي نشرها تحت عنوان :
” في إحياء مئوية ذكرى معركة دروتي ” ، وأشار ” الأفندي ” إلى دعوة الباحث الناشط البريطاني ” أليكس دوفال ” الذي نادى – ولا يزال ينادي – إلى إحياء الذكرى المئوية الأولى لانتصارات ” المساليت ” على الغزو الفرنسي في ” دار مساليت ” أقصى غرب السودان ، ولكنه – الحديث للأفندي – حتى الآن لم يجد من الدعم إلا بقدر ما وجد الخليفة عبدالله في معركة أم دبيكرات .
ورأى ” أليكس دوفال ” أن السودان هو البلد الوحيد الذي هزم أقوى أمبراطوريتين أوربيتين في ذروة الحقبة الإحتلالية ، حيث أجلت قوات الحركة المهدية الإحتلال التركي المدعوم من قبل بريطانيا في عام 1885م بينما صدت قوات سلطنة دار مساليت الجيوش الفرنسية في غزواتها المتكررة على سلطنة دار مساليت في ” كرندق ” و ” دروتي ” .
وقال الدكتور ” عبدالوهاب الأفندي ” ، أن معارك الثورة المهدية معروفة ومسجلة في التاريخ السوداني والعالمي ويتم الإحتفاء بها من حيث لآخر ، أما المعارك ضد الفرنسيين في دار مساليت فتكاد تكون غير معروفة لغالبية السودانيين ناهييك عن غيرهم ، اللهم إلا من قصيدة عصماء في عام 1964م للشاعر المبدع محمد مفتاح الفيتوري ، وكانت من درر شعره .
وهو يقصد مطولته الملحمية ” يا دار مساليت أنا حي ”
أو ” مقتل السلطان تاج الدين ” ومنها قوله :
” فوق الأفق الغربي سحاب أحمر لم يمطر
والشمس هنالك مسجونة
تتنزى شوقا منذ سنين
والريح تدور كطاحونة
حول خيامك يا تاج الدين
يا فارس
هذا زمن الشدة يا أخواني
هذا زمن الأحزان
سيموت كثير منا
وستشهد هذا الوديان
حزنا لم تشهده من قبل ولا من بعد
وارتاح بكلتا كفيه فوق الحربة
سرج جوادك ليس يلامس ظهر الأرض
وحصانك مثل البيرق يخرق الظلمات
يا فارس ”
وتلك لعمري القيمة الموضوعية للقصيدة الوضيئة ، التي لفتت إنتباه ” الأفندي ” كشارة وحيدة في مسار تاريخ تلك المعارك .
فالشاعر إذ أن في تقديري لم يكتفي بحدود الجميل أو القيمة الشكلية فحسب بل جعل الدلاء ينزل في عمق إنسان دار مساليت وإنجازه التاريخي وإضافته وإسهامه في تشكيل جغرافية السودان وهويته الثقافية .
بحثا عن عرى أسلاف المساليت عروة ، عروة وأزمنة ، وأمكنة معارك العزة في ” كرندق ” و ” درجيل ” و ” دروتي ” .
مستحضرا نداءات السلطان ” تاج الدين ” وهو يستنفر شعبه لمواجهة المحتل ” يا دار مساليت أنا حي ” .
أعلنها بلجاء ، حتى ضجت لصوته ” فرنسا كلها جسدا ونفسا ” ،
والصوت يعيد إنتاجه ” الفيتوري ” ليأتينا من عمق التأريخ :
” والخيل سنابكها تتوقد كالنيران
ومضى السلطان يقول لنا ، ولبحر الدين
هذا زمن الشدة يا أخواني
فسيوف الفرسان المقبوضة بالأيدي
تغدوا حطبا ما لم تقبضها بالإيمان
والسيف القاطع في كف الفارس
كالفارس يحلم بلقاء الفارس
وترجل تاج الدين ،
جبل يترجل مزهوا من فوق
وترجل بحر الدين
وحواليه عشرة ألف رجل
سجدوا فوق رمال دروتي لله معه ” ..
بهذا دخل إلى وقائع التأريخ منفتحا على الرؤية الشاعرية المبدعة ،،،
ماذا أراد أن يقول الفيتوري في هذا الإستدعاء ؟
فالمبدع الرؤيوي ليس كاتب للتاريخ ، بقدرما هو يبحث في ماهو ممكن .
بيد انه في نفس الوقت معني بالماضي قدر عنايته بالمستقبل وهو قادر على أن ينطلق من المستقبل إلى الحاضر مثلما يقدر أن ينطلق من الحاضر إلى الماضي .
وهو باحث عن الممكن ومساهم في حدوث الممكن بحكم موقعه التنويري …
المبدع عنصر فاعل في الصيرورة التاريخية لأنه مشدود بين لحظة الكشف وبين المثل العليا .
فهو عامل محرض لما هو ممكن حدوثه ،،،
وبهذا تداخلت رؤية الشاعر في أحداث التأريخ والناس بكامل أبهاتهم وقسماتهم الباذخة في الحاضر والمستقبل .
الماضي والحاضر يدخلان في جدل وكأنه جدل الشمس والظلمات ،،،
ويقول الفيتوري في قصيدة أخرى للجيل الذي يتوسد تاريخ أسلافه الأماجد في سلطنة دار مساليت :
” كن لهبا إلهيا وكن ذهبا
وللأبطال والشعراء والأشباه
قل للموت والفقراء :
ثمة في الحياة إله ”
وهكذا يلتقي الدكتور ” عبدالوهاب الأفندي ” والشاعر ” محمد مفتاح الفيتوري ” لسبر أغوار ” المساليت ” هذا الكيان الإنساني الذي أسهم في رسم جغرافية السودان ، تضاريسا وسهوبا وأودية محددا مياسم السودان في غربه الأقصى .
ومقالنا هذا يعمد إلى الإضاءة وكشف الحجب عن معالم أزمنة مجد الناس في السودان ، وهم ” في قمة الشمس الصبية ” وقفوا بجلد ملتمسين أسباب بناء أمة متكاملة الرؤيا ، متناسقة ومتعاضدة ، تتفجر نبع مشاركة وسخاء فوق مداخل إفريقيا .
عمل تلك المجتمعات ، وفقا لتلك الرؤية والرسالة ، برغم عدم وجود وحدة إدارية تربط بينها ، إلا أن المزاج والوجدان كانا مشتركين .
وسلطنة دار مساليت كغيرها من السلطنات الإسلامية المستقلة – كيانا وأرضا – عن غيرها من السلطنات والممالك الأخرى .
غير أنها وقفت بشموخ وإباء في معاركها ضد ” الكولونيالية ” الأروبية الفرنسية . مدافعة عن الأفق الغربي .
” عصر البطولة في دار مساليت ” والذي أسهم في تشكيل واقع جديد للسودان ، جغرافية أرض ، وبعد إجتماعي آخر ، أضيف في أنسجة تكوين مجتمعاته .
تم تغيبه من ذاكرة الأجيال اللاحقة ، فلم يجدوه في أي مرحلة من مراحل المؤسسات التعليمية في السودان .
وذلك من باب التضليل وطمس حقائق التاريخ والتي خلفت الحالة السودانية الآن وصور مشهدياته الماثلة في تناطح ثقافاته وأزماته الإجتماعية .
كما أن ذلك برهان لامع الدلالة ، لحالة اللاعتراف بمكونات لها أسهام كبير في تشكيل وجدان أهل السودان ونسبه الثقافي وإقصاءه وإنكار تأثيراته .
إن قراءة التباين والتعدد الثقافي ، هي مصطلحات تنتج الآن من خلال إنعكاس حالة نفسية يعيشها أبناء تلك المناطق ، لا بسبب خصائص أثنية أو ثقافية متعينة ، ولكن هو ردة فعل معاكس لذلك الفعل ، في كتابة تاريخ السودان الذي يدون وقائع وأحداث طرف ، ويقصي طرفا عظيما آخر دون أي محاولة للتدوين في اللوح المأثور المحفوظ والإفصاح عنه متساويا مع ما يدون ويفصح عنه لدى طرف آخر .
لماذا لا نجعل من هذا وذاك كله قوة وإمتيازا للسودان بكل أطرافه .
إن التاريخ والملاحم وسير البطولات في أي جهة من الجهات ، هو حق لكل السودانيين ، عليهم معرفته وتمجيده والتأسي والإقتداء به .
إن معارك السلطان ” تاج الدين ” وخليفته ” ” بحرالدين أندوكه ” ضد ” الكولونيالية ” وصدهم له وتبديد أحلام الفرنسيين بتلك الصور والمشاهدات البطولية ، ومن ثم تلك الرغبة الذاتية من السلطان ” بحرالدين ” – اختيارا لا جبرا – بأن تضم سلطنة دار مساليت إلى السودان الإنجليزي وقتئذ من خلال إتفاقية ” قلاني ” هو فعل ينم عن أصالة وإحساس بالذات المنتمي ، لذات الإتجاه الذي أراد أن ينضم إليه .
إستدعاء هذا التاريخ البطولي ، وإعادة إنتاجه وإسقاطه على حاضرنا ، يدخل ضمن قائمة توافق الوجدان والمزاج النفسي ، في توحده وإئتلافه ، بل هو من الأسباب الممسكة للوحدة والتراضي والإجماع على الثوابت الوطنية . وتعيد ترتيب كثير من الأشياء دون تنافر وتناحر وتباعد عن الذات والتغرب .
فأوضاعنا في السودان ، تتطلب قراءة تاريخنا كله بكل أحداثه ووقائعه دون تجزءة ، إنعاشا للذاكرة الجمعية من خلال تراث مؤصل تنمحي فيه حدود ” الأعلى والأدنى ” في وطن نصون فيه الإختلاف دون تراتبيات متوهمة .
إن تلك الإشارة الذكية من الدكتور ” عبدالوهاب الأفندي ” عن ضرورة إحتفال وطني يليق بجهاد دار مساليت وسلاطينهم الأبرار ، وعلى رأسهم السلطان تاج الدين الذي سعى للشهادة في معركة ” دروتي ” . إحتفالا يجسد الوحدة والتلاحم في البلد كله وذلك إتباعا لسنة السلطان تاج الدين نفسه – عليه رحمة الله – حيث ، صل بجنوده وخطب فيهم خطبة حماسية ، جعلتهم يحملون على الغزاة حملة رجل واحد بدون خوف أو تردد .
* المساليت موقع الدار والنسب وصراع الأيديولوجيا :
في قولنا : ” دار مساليت ” نقصد الأرض الحكر المعين بحدوده الجغرافية للمجتمع الإنساني العرقي الإثني الذي شغله وفقا للتقاليد والأعراف – حسب تعريف إبراهيم أبو سليم – والعلاقات الإقتصادية التي حكمت الناس في أوان ما .
وعليها أسسوا سلطان حيواتهم ويتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه بالزرع والرعي والتوزيع والبيع والهدم والبناء والصدقة والشرك .
وهي ذات الدعائم التي شيدت بها سلطنات ودويلات السودان وعشائرياته واكتملت منظومات أنساقه الإجتماعية واكتسبت طابعها التاريخي وحدود عطاءه الإنساني .
وعلى هذا المعنى يوالي الكاتب على صحائف هذه المقالة عن سلطنة دار مساليت والذي نبدأه على النحو التالي :
1- الموقع الجغرافي
دار مساليت هي وحدة جغرافية من الأرض تقع في أقصى غرب السودان ، تحدها من ناحية شرقها ” سلطنة دارفور ” ويفصل بينهما طبيعيا ” وادي باري ” و ” وادي أزوم ” .
وفي ناحية الغرب نجد دلة تشاد ، أو بالتحديد ” سلطنة الوداي ” وفقا لتعريفات الحزام السوداني القديم وهي من المكونات الشرقية الآن لدولة تشاد .
بيد أن ذاك الجزء نفسه – كان جزء كبير منه – أرضا يتبع لسلطنة دار مساليت والتي تم ضمها إلى السودان الفرنسي تنفيذا لإتفاقية ” قلاني ” التي أبرمت بين المساليت والسلطات الفرنسية المحتلة لدولة تشاد أنذاك .
بمعنى أن المساليت في إمتلاكهم للرقعة الجغرافية المحددة لدارهم كانوا يتموضعون بين الجزء الغربي من سلطنة دارفور والجزء الشرقي من سلطنة الوداي ..
وثمة رؤية ترى أن حدود دار مساليت تشكلت على ثلاثة مضامين حدودية ، وهذا ما ذهب إليه ” إبراهيم يحيى عبدالرحمن ” صاحب كتاب ” المساليت ” :
* دار مساليت ما قبل 1874م
* دار مساليت حتى 1922م
* دار مساليت بعد 1924م
ففي المضمون الأول لحدود دار مساليت ، لم تكن دار مساليت وحدة سياسية إدارية قائمة بذاتها .
ولكنها كانت وحدات قبلية تحت قيادة الملوك والدلجي ، جمع ” دلا ” وبالتالي لم تكن بحدود معلومة .
وفي المرحلة الثانية ، وهي مرحلة دار مساليت بعد قيام سلطنة دار مساليت وحتى 1924م وتضم قبائل دار مساليت في الحدود الشرقية لدار وداي والمساليت في الحدود الغربية لسلطنة دار فور .
والمرحلة الثالثة ، هي دار مساليت بعد ترسيم الحدود في عام 1922م وقيام دولة تشاد وهي تشمل دار جبل زائدا دار إرنقا بالإضافة إلى مساليت مقدومية الغرب والجزء الجنوبي من دار مساليت ومنطقة السنجار حتى ملتقى وادي كجا ووادي أزوم بمقرورة ، وهذا الأخير هو الشكل الأخير لدار مساليت كسلطنة، وفقا لما ذهب إليه ” إبراهيم يحيى عبدالرحمن ” .
2- تأملات نقدية في المرويات عن أصل المساليت :
في هذا الجزء من أجزاء المقال والذي ننظر فيه عن أصل ونسب المساليت كمكون أثني عرقي ضمن الإثنيات المكونة لشعب السودان ، لابد من الإقرار على أن الكاتب يذهب ما ذهب إليه ” يوسف فضل حسن ” في كتابه : ” دراسات في تاريخ السودان وأفريقيا وبلاد العرب ” ، بأن السودان لم يكن مجرد جسر عبرت عليه الثقافة العربية والإسلامية إلى إفريقيا ، ولا بوتقة انصهرت فيها الثقافتان ، العربية والإفريقية ، فحسب ، وإنما كانت للسودان شخصيته التاريخية المميزة منذ فجر التاريخ .
لا مكان فحسب ، وإنما حياة إنسانية توالدت فيه ، فإن طرح أي منظور من المنظورات التي تنظر في أصول ونسب قبائله وإثنياته لابد من الإتكاء على هذه الخلفية والإستناد عليها ، وذلك هو الوعي بحقائق الواقع الموضوعي ،
فثنائية الأفريقانية والعروبة ومناقشاتهما أحدثت تجريفات أوقعت أغلب المجتمعات السودانية في بئر عميق من الأوهام والمرويات التي تولدت في ظل تصورات خاطئة عن السودان أعلت من شأن الوافد على حساب الأصيل وذهبت إلى تحديد الشخصية السودانية بالوافد الأعلى شرفا ” الأشراف ” أو غير الوافد من بلاد الأشراف وهو من المنسلين في المكان الأفريقي أبا عن جد .
وكرس لذلك المفهوم المخيال العربي والأروبي معا وبهذا ضعفت الحماسة في روح أغلب القبائل السودانية الحديث عن الأصالة الإفريقية وفرادتها وتنكروا لها ، وتعاظمت الإدعاءات بالإنتساب إلي خارج إفريقيا بتصميم شجر أنساب أخرى تدعي الإنتساب إلى الجزيرة العربية بحثا عن الشرف والعلو الذي ارتبط في تلك المواقيت بالإنتساب إلي العرب وآل البيت .
كما هو الحال عند كثير من المرويات الشفاهية عن أصل المساليت والتي نجد في بعضها جنوحا إلى المبالغة والخرافة ، تأثرا بتلك المفاهيم المتسربة من الخيال العربي القديم عن شعوب إفريقيا والسودان التي رسخت صورا فيها من سمات وخصائص ووصوف سالبة عن الإفريقي ، ولا يزال تأثيرها حيا وممتدا حتي اليوم .
ولم يبرأ كيان المساليت من تلك التصورات والأوهام نفسها في كلامهم عن الأصل والأصول .
فمدونات التاريخ التي تناولت المساليت – على قلتها – إلا أنه ثمة ضباب كثيف من الأوهام خالطت الأقوال والروايات ولكن بالمقابل لابد من الإشارة إلى أن بعضها إتسم بالجدة والأصالة .
وعليه نورد بعض الروايات المروية عن أصل المساليت ونسبهم :
* حكى الرحالة العابر محمد بن عمر التونسي في كتابه ” تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان ” وهو من الرحالة الذين دونوا انطباعاتهم ومشاهداتهم عن أقليم دارفور والشعوب المحيطة به غير أننا وفي قراءتنا الخاصة لكتابه ” تشحيذ الأذهان ” سنذهب مذهبا مختلفا عن كثير من الأراء التي قامت بتقريظ الكتاب والإستناد عليه في كثير من الرؤى .
إذ لا بد من الإفصاح الصريح بأن التونسي طغت على إفاداته النزعة الإخبارية الجامحة في حب إمتاع المتلقين واستثارة خيالهم وإدهاشهم بالغريب من المشاهد والصور فمزج بين ” الفنتازيا ” والواقعي والخرافة والأساطير في وصف شعوب إقليم دارفور إلا أنه قال عن المساليت أو المساليط كما أطلق عليهم ، أنهم عنصر قديم وعريق في هذا المكان بالرغم من صعوبة تحديد تاريخ تواجدهم على وجه الدقة .
* أما ” ماكميكل Macmichael ” قال :
المساليت خليط من الزنوج والعرب ويتكلمون لغة خاصة بهم مميزة عن لغات دارفور كما أن لغتهم يقال أنها تنتمي إلى لغة المابا وهم أهل حرب وجلد وأن هيئتهم جيدة وأذكياء ، ولكن يدعون ادعاءا مبهما وغامضا بانتماءهم إلى الخزام والمسيرية وأن غالبيتهم زنوج مع ملامح عربية خفيفة .
ذلك قول ” ماكميكل ” ، وأما قوله : ” ولكن يدعون إدعاءا مبهما وغامضا بانتماءهم إلى الخزام والمسيرية ” هي جملة توحي وبجلاء إلى ما ذهبنا إليه في مقدمة موضوعنا في هذا الجزء من أجزاء مقالنا ويؤكد قولنا أن حالة الإنجراف إلى بئر التصورات الوهمية لأغلب السودانيين من الأصل الإفريقي جريا إلى النسب العربي تبعا لحالة نفي وإقصاء المكون الإفريقي الصريح من الشخصية السودانية وهو إلتباس من الإلتباسات التي أوجدتها المخيلة العربية في أهل السودان .
وعلى هذا الأساس ذهبت المرويات والأقاصيص المستندة على خلفية تلك الصور الذهنية المتخيلة .
وذهب بعض الرواة بأن أسلاف المساليت القدماء هاجروا من شمال إفريقيا ، وعبروا الصحراء الكبرى قادمين من إنحاء تونس وليبيا واستوطنوا في أمكنتهم المحددة .
وتدخل معظم تلك الروايات من باب نفي الإفريقية وإستباعده وتقوية الأثر العربي تحت دعوى ” النسب الشريف ” ليضفي على صراع الأضاد مسحة عقدية / أيديولوجية ، كما هو في كثير من نواحي السودان واتجاهاته .
* المساليت أمة شجاعة شديدة المراس :
والتعبير أعلاه هو للكاتب الباحث ” إبراهيم شمو ” في بحثه المقدم لمؤتمر إتحاد الكتاب السودانيين ” 2011م تحت عنوان :
” دار مساليت النموذج الإفريقي الإنساني للتعايش السلمي بالرأس المرفوعة ”
إذ قال ” أربعون عاما على ظهور الخيل قابضة على ألسنة الرماح 1875 – 1915م ”
مستندا على مقدمة ” إبراهيم يحيى عبدالرحمن ” في كتابه ” المساليت ” :
من أن سلطنة المساليت هي أحدث سلطنة ومملكة إسلامية قامت في هذا الحزام السوداني وأدت أدوارا بطولية تستحق فيها التقدير والتمجيد والإحترام بميزان التمجيد الذي يمجد ويكرم المستحقين .
إن دار مساليت ظلت مستقلة ولم تسقط في أيدي المستعمرين ودخولهم في منظومة السودان كان بقدحهم .
وتأكيدا لهذه الإستقلالية وبالإستناد إلى نصوص إتفاقية ” قلاني 1922م ” بين المساليت والحكومة الإنجليزية ورد نص واضح لا لبس فيه في قانون التصرف في الأراضي الذي كان معمولا به حتى عشية الإستقلال في أول يناير 1956م يستثني ملكية الأراضي في دار مساليت من ملكيات الدولة العامة ويحيها إلى ملكية خاصة بالقبيلة . ولهذا فقد قيل أن هذا كان أحد الأسباب التي دعت الإنجليز إلى إعتماد دار مساليت كواحدة من ثلاثة خيارات التي كان الإنجليز يفكرون في إرسال جيش الجلاء فيها بريطانيا وشرق آسيا .
ويضيف ” إبراهيم شمو ” في بحثه قائلا :
إن معركة ” دروتي ” نفسها خير شاهد على شجاعة وبسالة المساليت كمحاربين الشيء الذي أدي إلي إنتصارهم علي الفرنسيين في 1910م بالرغم من عدم التكافؤ في نوعية الأسلحة المستخدمة كأحد أحدث التقنيات العسكرية التي وصلت إليها أوربا في أدوات الحرب .
* ملكية دار مساليت لحواكيرهم حالة إستثنائية في السودان :
وذلك وفقا لبحث ” إبراهيم شمو ” دار مساليت الأرض الوحيدة التي إنضمت إلى حكومة جمهورية السودان بالإتفاق لا بالإحتلال .
وهذا ما جعل أن تكون خصوصية في ملكية المساليت لأرضهم ، هم دون غيرهم من كل قبائل السودان . وهذه الحقيقة كانت معروفة بوضوح للسلطات الإستعمارية التي حكمت السودان وظل هذا الوضع في مكان التقدير والإحترام – الحديث لا يزال لإبراهيم شمو – طوال فترة الإستعمار البريطاني للسودان .
وخلفية هذه القضية هي أن الإستعمار البريطاني عندما إحتل السودان بعد هزيمة المهدية لم يسع لتكملة إحتلال السودان كله دفعة واحدة . ودارفور كانت واحدة من تلك الأجزاء التي لم يغزوها الإستعمار إلا في 1916م .
وقبل 1916م ظلت دار مساليت تعيش مستقلة رفضت أن تنحني لسلطنة الفور ” علي دينار ” كما أنها لم تقبل بغطرسة الفرنسيين وقد حاربت الطرفين بشراسة كما هو معروف تاريخيا .
بيد أن الشاهد في سلاطين دار مساليت خاصة السلطان ” بحرالدين أندوكه ” قد حكم السلطنة بالحكمة وجميل المبادئ الإنسانية إذ كان يرحب بكل من أتى إليه للسكن والإقامة في دار مساليت بدون أي إنتقاء أو إقصاء لإي إنسان سواء كان فردا أو مجموعة قبلية .
وكان يوظف كل الوافدين الذين سكنوا في أرض السلطنة توظيفا ذكيا وفقا لقدراتهم ومواهبهم ويلتمع قولنا هذا من خلال توزيع المهام المختلفة لأناس مختلفين ينتسبون لأصول وقبائل مختلفة ، مثلا :
* مهمة إمامة الجامع الكبير ، للمساليت الإمام ” عمر عبدالله ” وخلفه أبنه عبدالعزيز
* مهمة القضاء الشرعي للبرنو ، القاضي الجهبذ ” زقزقي ” وقد أستمر في هذا المنصب سبعيا عاما .
* شؤون التجارة والتجار للشيخ محمد الشفيع ثم خلفه ” بابكر التني ” وهو من العمراب ، نزل عند قدومه أولا ضيفا لدى سلطان القمر في كلبس وبدأ تجارته من هناك ثم إنتقل إلى دار مساليت .
* مهمة إدارة سوق العطرون للقرعان ” الشيخ بركه ”
* وعمدة المدينة ” ما أنديلي ” وهو من أهل السلطنة .
* ومهمة القضاء بمحكمة السلطان لقبيلة البرنو ” الشيخ علي أزرق بن السنوسي بن علي في عام 1884 ثم خلفه أخيه إبراهيم ومن ثم تلاه إبن أخيه ” عبدالمالك بن علي ” لمدة أربعين سنة ثم خلفه إبنه التجاني لمدة أربعة وخمسين سنة وجميعهم ينتمون لنفس الأسرة من البرنو .
* وأسندت مهمة التنسيق بين السلطان وقبيلة الهوسا إلى ” صالح أبكر ” المشهور بصالح كلي كلي .
* والتنسيق مع البرنو ، الفكي أبو القاسم
* والتنسيق مع الفلاته إلى أبكر علي فؤاد
* والتنسيق بين السلطان والبرقو ، آدم عمر .
* والتنسيق مع أولاد الريف ، الخليفة كتكوت .
* ومأذن الجامع الكبير ” أبو ود ماربي ” وخلفه بعد ذلك الفكي بحر .
وقد بدأ العمل بالقضاء في السلطنة مع بداية حكم السلطان إسماعيل بن عبدالنبي .
وهكذا أدار المساليت سلطنتهم بإحسان فريد للتنوع الثقافي والتعدد .
وبهذه الحكمة تأسست مدينة الجنينة على خليط من القبائل والأجناس التي جعلت منها إفريقيا مصغرة
كان السلطان بحرالدين – 1915 – 1951م – حكيما عبقري القيادة شجاعا وشهما وصاحب مروءة ، متدينا ورعا لا يرضى بالدنية في دينه أبدا ولم يكتثر للحاكم الإنجليزي ولم يطأطأ جبينها أبدا لأحد مهما على في سلطاته وحكمه في بلاد السودان .
ولتلك الصفات الشخصية في السلطان بحرالدين أندوكه أصبحت دار مساليت أكثر جذبا للناس وتدفق الخلائق من شرق السودان والغرب ومن الشمال وتوافد الجلابة تجارا وأهل جاه وعلماء وفقهاء كلهم ساهموا في إزداهار الجنينة عاصمة السلطنة ومركزها الروحي .
وتلك عبقرية ” بحرالدين أندوكه ” ..
ومن بعد سار على نهج حكمته خليفته أبنه ” عبدالرحمن بحرالدين ” رجل كان يتقطر حكمة وحنكة ودربة ، جمع الناس حوله ودا ومحبة لدار مساليت وأهلها .
كان إنتماءه للناس جميعا بمختلف قبائلهم وأعراقهم واتجاهاتهم الفكرية وتنظيماتهم السياسة ، لم يرى للسلطان أي نشاط سياسي يضعه في جانب الإنتماء الحزبي الضيق ، كان يجتمع عنده الحكام والمعارضون فكلهم عنده على مسافة واحدة .
لم يزايد في أي مسألة من مسائل الناس والأرض ، عفيف اليد واللسان .
كان عظيما في كل شأن من شؤون الناس ، ولم يكن جبارا ، ولم يصغر خده عند أبواب قادة السياسة ، أو في بلاط والي من الولاة .
وننظر إلى واقعنا اليوم ونتساءل هل كان أولئك السلاطين أبعد نظرا وأكثر حكمة ؟
أم أنهم كانوا أصفى نية وأخلص وطنية ؟