القاهرة: صباح موسى
مرة أخرى تعيش ولايات دارفور حالة متكررة من عدم الإستقرار والأمان، وذلك رغم توقيع السلام مع عدد كبير من الحركات المسلحة في الإقليم الذي يعاني ويلات الحرب الأهلية منذ عام 2003 ، في أكتوبر 2020، ورغم تردد أن النظام السابق في السودان، كان سببا رئيسيا في هذه الحالة من عدم الإستقرار لقطعة من أرض البلاد تعادل مساحة فرنسا غنية بثروات طبيعية كفيلة بنقل دارفور بل السودان كله لمكانة إقتصادية مختلفة، فماذا يحدث بالإقليم الذي تحركت له وسائل الإعلام الدولية، لنقل مآسي الحرب وويلاتها فيه، ونزوح وقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين فيه، لماذا وقفت بنادق التمرد ولم يتوقف نزيف الدماء والتشرد في دارفور ؟ .
وتبحث « أفرو نيوز 24 » في التقرير التالي عن أسباب عدم الاستقرار واستمرار نزيف الدم في الاقليم.
هجوم جديد
قبل يومين أعلنت السلطات السودانية حالة الطوارئ وحظر التجوال الليلي في ولاية جنوب دارفور بغرب البلاد، وذلك على إثر هجمات دموية أدت إلى مقتل أكثر من 12 شخصا، وإصابة أكثر من 30 آخرين، وقال شهود عيان إن المهاجمين كانوا يستخدمون أسلحة ثقيلة وسيارات دفع رباعية وقاموا بحرق عدد من القرى واقتادوا مجموعة من السكان إلى أماكن غير معلومة، ويواجه سكان القرى التي تعرضت للهجوم أوضاعا أمنية وإنسانية صعبة للغاية في ظل استمرار الهجمات وأعمال الحرق والنهب، كما تواجه الفرق الطبية صعوبات كبيرة للوصول إلى الجرحى حيث أغلقت القوات التي نفذت الهجوم جميع الطرق المؤدية إلى تلك القرى التي يبعد بعضها نحو 20 كيلومترا من مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، وأدانت هيئة محامي دارفور – وهي هيئة حقوقية – الهجمات، وحملت السلطات المحلية والمركزية المسؤولية، وقالت إن استمرار التعدي على المدنيين وحرق القرى والقتل الجزافي هو نتيجة لانتشار السلاح وغياب القانون.
بسط الأمن
في الوقت نفسه دفعت لجنة أمن ولاية جنوب دارفور بقوات قوامها (٥٧) مركبة عسكرية من القوات المشتركة لحسم التفلتات والنزاع القبلي شمال شرق الولاية، وأكد حامد التجاني هنون والي ولاية جنوب دارفور استقرار الأوضاع الأمنية بالولاية في أعقاب أحداث العنف القبلي الدامية التي شهدتها مناطق شرق الولاية، وأشار الوالي أن لجنة أمن ولاية ظلت في إجتماعات متواصلة، ودفعت قوات كافية منتشرة في المنطقة من أجل بسط الأمن وهيبة الدولة بشكل واضح كما أصدرت التوجيهات للقوات فى هذا الصدد، وبخصوص الوضع الإنساني أكد حامد التجاني هنون والي ولاية جنوب دارفور توجيه مفوضية العون الإنساني بتوفير الدعم الإنساني العاجل للنازحين المتضررين من الأحداث بصورة عاجلة، ولفت الوالي إلى أن جهود لجنة أمن الولاية متواصلة مع الإدارات الاهلية في الطرفين عبر آلية المصالحات و قامت بالتواصل مع الأهالي في المناطق المتأثرة لعودة النازحين إلى مناطقهم.
تكرار العنف
هذا المشهد متكرر لأكثر من مرة في الإقليم بعد أكثر من عامين من توقيع السلام مابين نزاعات قبلية، وبين ظهور متفلتين -على حد قول السلطات الأمنية-، تحدث الواقعة وتصرح السلطات بعد فقدان العشرات وتشريد الآلاف بأنه تم السيطرة على الأوضاع، ومنذ أكتوبر 2021، تكررت أعمال العنف في دارفور أكثر من 5 مرات وأدت إلى مقتل أكثر من ألف شخص بينهم نساء وأطفال وحرق قرى بكاملها، وفي يونيو 2022، شهدت مناطق في ولاية النيل الأزرق اقتتال قبلي دامي تجدد مرة أخرى في أكتوبر، مما أدى إلى مقتل أكثر من 600 ونزوح أكثر من 200 ألف إلى مناطق أكثر أمانا في شمال الولاية وولايات أخرى، ففي أكتوبر 2022 اندلعت أعمال قتل وحرق واسعة أيضا في منطقة لقاوة في ولاية جنوب كردفان، سقط خلالها أكثر من 60 شخصا ما بين قتيل وجريح، واضطر نحو 36 الف شخص للفرار-بحسب الأمم المتحدة-، وسط تساؤلات كبيرة حول لماذا السيطرة دائما بعد الحدث وليس قبله، ماهي الحلقة المفقودة التي تحول دون وقف العنف في هذا الإقليم الدامي، في وقت كان يأمل فيه السودانيون في أن يوقف إتفاق السلام آلة الحرب التي اندلعت في العام 2003، وحصدت أرواح مئات الآلاف وشردت الملايين في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، لكن الأوضاع الإنسانية والمعيشية تدهورت بشكل أكبر في تلك المناطق خلال العام الأخير، ووفقا لمنظمة الأمم المتحدة فإن أكثر من 13 مليون سوداني معظمهم في مناطق الحرب يواجهون خطر التعرض للنقص الحاد في الغذاء.
تدهور كبير
وللبحث حول هذه الحالة من عدم الإستقرار بالإقليم، تبين أن عدم تأمين مناطق النازحين، وأنه بعد عامين من توقيع إتفاق السلام ما تزال معسكرات النازحين تشهد تدهورا كبيرا في الأمن والخدمات الصحية والتعليمية والأوضاع المعيشية، ولم ينجح الإتفاق حتى الآن في إعادة النازحين إلى مناطقهم الأصلية بسبب التدهور العام في الأوضاع الأمنية واستمرار القتال في معظم أنحاء دارفور، ويعتبر التأخر في تنفيذ بند الترتيبات الأمنية الذي نص عليه الإتفاق من أبرز الأسباب التي أدت إلى استمرار أعمال العنف في دارفور، وبحسب إتفاق السلام كان يفترض البدء في عمليات الدمج والتسريح خلال فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر من توقيع الإتفاق، علاوة على تشكيل القوات المشتركة بين القوات النظامية والحركات المسلحة، لكن العملية تأخرت كثيرا، وذلك لتمركز قوات الحركات في العاصمة، وانشغال قادة الحركات فقط بضرورة تنفيذ بند تقاسم السلطة وتولي المناصب التنفيذية، على حساب باقي بنود الإتفاق الأكثر أهمية من عودة النازحيين واللاجئين لقراهم وحل مشاكلهم وتأمينهم أولا، إلا أن الأوضاع بالمركز أخذت قادة الحركات في صراع من نوع آخر، كان يجب أن يكون مختلفا لخلق بيئة مواءمة لتحقيق السلام في المناطق التي تأثرت بالحرب، كما خلق تنفيذ بند تقاسم السلطة واقتصارها على عدد من الحركات إلى وجود عدد آخر من الحركات بلغ قرابة الـ 85 حركة في دارفور وحدها – وفق معلومات واردة من الإقليم، وذلك لأن تقاسم السلطة أغرى الكثيرون في إنشاء حركات مسلحة جديدة أو الإنسلاخ عن الحركات الأم.
صراع المركز
وبدلا من انشغال قادة الحركات المسلحة بعد تولي مناصبهم في تحسين أوضاع الإقليم أمنيا واقتصاديا وتطبيق بنود الإتفاق، غرقوا في مشاكل المركز والصراع الدائر على السلطة فيه، ماجعل الأطراف الموقعة على الإتفاق الإطاري مؤخرا تطالب بمراجعة إتفاق السلام، ويلاقي ذلك رفضا كبيرا من قبل الحركات الموقعة على السلام، وهنا يفرض السؤال نفسه هل هذه المراجعة تستوجب فتح الإتفاق وتعديل بعض بنوده، أم مناقشة الخلل الذي حال دون التنفيذ، لم يوضح (الإطاري) ما هو المطلوب من هذه المراجعة، مازاد من حدة الخلاف بين قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي وقادة الحركات الموقعة، فما الذي يجعل الحرية والتغيير تطالب بمراجعة إتفاقا وقعته بنفسها مع الحركات المسلحة، وأشرفت على تنفيذه في فترة -ليست بقليلة- قبل خروجها من كبينة القيادة في 25 أكتوبر 2021.
جذور الخلاف
المتابع لإتمام عملية السلام منذ بداياتها بعد سقوط البشير والإنخراط في اتفاق الوثيقة الدستورية بين المكون العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، يرى أن البدايات شاهدت الكثير من الجدل حول مدى ضرورة إتمام السلام نفسه في هذه المرحلة والتي يشهد فيه السودان كله إنتقالا كبيرا، وسط حالة الجدل التي كانت موجودة بدأت العملية مع خلاف لم يكن بعيدا، فكانت تطلب الحركات انتظار السلام أولا قبل التوقيع على الوثيقة الدستورية، إلا أن الحرية والتغيير رفضت بشدة ذلك ومضت في التوقيع مع المكون العسكري، ونجحت الحركات الموقعة في تضمين شرط ماينتج عنه إتفاق السلام فيها، ولم يكن ذلك هو الخلاف الوحيد، فكانت الحركات تشكو كثيرا أثناء جولات التفاوض في جوبا من عدم رغبة الحرية والتغيير في إتمام عملية السلام، وأنها كانت تتباطئ كثيرا في الإتفاق على البنود، لولا تدخل الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس المجلس السيادي وإقناع الطرفين بضرورة سرعة إتمام العملية، وربما لم يكن حميدتي في ذلك مخلصا في إتمام السلام .
على أية حال ظلت هذه الخلافات حاضرة بين الحركات وقوى إعلان الحرية والتغيير بالمركز، ولم ينسى قادة الحركات ذلك، وراحت تهدد مرارا بضرورة هيكلة الحاضنة السياسية لحكومة حمدوك وقتها من الحرية والتغيير، ليتحول الخلاف إلى صراع مكانه هذه المرة في المركز، ومابين شد وجذب وتكتلات وتكتلات مضادة، خرجت الحرية والتغيير من قيادة المشهد، بعد إنقلاب البرهان عليهم في 25 أكتوبر قبل الماضي، واسطفت الحركات مع المكون العسكري، واتهام المتبقي من الحرية والتغيير لها بنجاح التخطيط لتغيير الحاضنة السياسية تماما.
وسط هذا المشهد المتنازع في العاصمة الخرطوم ضاع السلام المنشود في دارفور ومناطق الحروب، حتى أن هذا النزاع جر معه أيضا مناطق كانت آمنة في شرق السودان على وجه الخصوص، فالانقسامات الحادة بالمركز ألقت بظلالها على أطراف البلاد، ولم يعد هناك أي تركيز لإنصاف أصحاب المصلحة في الأقاليم المتضررة من الحروب، لم يستتب الأمن، ولم ينزع السلاح المنتشر في كل البيوت، ولم تغب المناورات السياسية في تأجيج الأوضاع في دارفور وكردفان وغيرهم من الأقاليم المهمشة، للبحث عن ذرائع الفشل بين المتصارعين على السلطة في المركز، ولم ينتبه قادة الحركات المسلحة إلى ضرورة تأمين واستقرار أوضاع أهاليهم الذين عانوا ويلات الحروب، واكتفوا بزيارات عابرة لمناطق النزاع دون الوقوف الحقيقي على ترتيبات الإستقرار، بحجة أن الأوضاع الإقتصادية للسودان كله لم تعطي الفرصة لتنفيذ بنود إتفاق السلام، رغم أن التنفيذ لا يعتمد فقط على الإقتصاد المحلي، وكانت هناك فرصة لاستجلاب الأموال الخارجية الموعودة لإستقرار الإقليم، وقبل التعليل بعدم دعم الخارج في هذه الظروف الإقليمية والدولية المرتبكة، لم نر محاولة واحدة لقادة الحركات وعلى رأسهم مني أركو مناوي حاكم دارفور بالسفر لهذه الدول لطلب المساعدة في ضرورة عودة النازحيين واللاجئين لقراهم وزراعة أراضيهم، مع استتباب الأمن بصورة مرضية تشجع الأهالي في الوقوف مع الإتفاق الذي من المفترض أنه وقع لأجلهم، وليس من أجل تولي المناصب لقادة الحركات، وتركهم هكذا، فمالذي يجعل المتضررين يتبنون هذا الإتفاق والوقوف بجانبه، إذا كانت نتائجه في غير المصلحة.
الخلاصة
الخلاصة أن وقف نزيف الدم في دارفور والأماكن المتضررة في السودان لم يتوقف ولن يتوقف إلا بتحقيق الأمن واستقرار مصالح أصحاب المصلحة من المتضررين في المقام الأول، وأن النظرة الإستراتيجية للحركات ينبغي أن تتغير من الصراع المباشر لنيل المكاسب لن يتحقق إلا على أرض دارفور قبل أرض الخرطوم، فاستقرار الأهالي في المناطق المتضررة بأمنهم وتحسين أوضاعهم المأسوية هو الأرضية الحقيقية لقيادة المركز والعاصمة وليس العكس.