هل من مستقبل لنجاح الاتفاق الإطاري السوداني؟

وقائع الحراك السياسي في السودان منذ أن أسقطت ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018 رأس النظام في التاسع من أبريل (نيسان) 2019، كشفت بعد مرور أربعة أعوام على الحدث العظيم عن طبقات وأقنعة من السيولة والتعقيد في واقع يمكننا القول إن لا أحد في مقدروه اليوم أن يتنبأ بحقيقة ما يمكن أن تفضي إليه مآلاته.

فالحفر والتأمل غير السريع في وقائع تاريخ اجتماع سياسي حديث للسودانيين، خلال مئة عام، وما اتصل بهذا التاريخ من أحداث ومصائر ومفارقات يضعنا باستمرار أمام غموض أكثر تعقيداً لصيغة ما للسودان يتعذر الإمساك فيها بأي معنى منضبط في مفاصل محددة ومحفزة لأن نبني عليها مقدمات قراءة واضحة تنطلق من الماضي إلى المستقبل.

وبصفة عامة، فالمنطقة التي يقع فيها السودان هي الأخرى بشكل ما من الأشكال يصح فيها ذلك الغموض، فعبر ما جرى خلال العشرية الثانية من هذه الألفية، بدا ما سمي بالربيع العربي كما لو أنه معضلة غير قابلة للفهم، فالربيع الناقص الذي نتجت منه صيرورات سياسية مختلفة في العشرية ذاتها، مر دون أن تفيد قراءته في الخروج بأية نتائج منطقية، الأمر الذي يضعنا أيضاً أمام أسئلة من شاكلة، كيف نفهم مؤشر قياس الثورات العالمية في المنطقة العربية، وهل هناك منطق واحد ينطلق من حيثيات مختلفة للثورة بين الشرق والغرب؟ أم أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا حتى في مصائر الثورات؟

إن الوقائع التي تتعثر فيها خرائط الفعل السياسي للأحزاب أمام ضغوط وتحديات واقع ما بعد الثورة في هذه المنطقة، وفي السودان بصفة خاصة (الذي مر بثورات ثلاث 1964 – 1985 – 2018) لا يجعل المراقب يخرج بذلك الانطباع الذي يمكن أن يكون له بمثابة دليل إرشادي مستقى من قراءة تاريخ الثورات الكلاسيكية حتى آخر ثورة في القرن العشرين، وإنما يجعله حائراً حيال تنبؤات غامضة لن تكون بأي حال دالة مقارنة مع أي صيرورة لتلك الثورات الكلاسيكية في التاريخ الأوروبي، لأن غياب الانتظام الذي تتحرك فيه حتى الفوضى الخلاقة سيظل بمثابة سؤال بعلامة استفهام كبيرة دون أي إجابة.

ذلك أن حيثية التخلف التي ضربت الجذور العميقة لنظم إدراك المجتمعات في هذه المنطقة طوال قرون عديدة، هي في تقديرنا الحيثية المانعة من الخروج بأي قراءة صادقة للتنبؤ بمصائر الفعل السياسي من حيث كونه فعلاً ذا مصائر حميدة ونتائج متوقعة لما تفعله الأحزاب السياسية في المجال العام.

ومع ذلك فإن التخلف ذاته من ناحية أخرى، هو الدالة التي تفسر لنا عبر مفهوم “السلب” جميع الامتناعات التي تبدو في الواقع السياسي لأحزاب مجتمعات التخلف كما لو أنها امتناعات من طبيعة مستحيلة، على رغم أن مطلق العقل يدرك أن ما يبدو امتناعاً أمام العقل السياسي للأحزاب هي أمور في حكم البديهيات، لكنها تبدو كمعضلات فقط بسبب غشاوة التخلف على العقل الحزبي، فإذا حقائق الواقع السياسي وتحدياته الممكنة الإنجاز، كالوحدة، والقدرة على رؤية المصلحة العامة والقدرة على الاتفاق عليها، عندئذ تستحيل امتناعات مستحكمة تؤدي باستمرار إلى تكرار الفشل.

وإذا ما بدا أن إطار التخلف وسلطانه هو الذي يتحكم في خلفيات العمل السياسي للأحزاب المركزية بالسودان فذلك بالضرورة سيحيلنا إلى أمرين، الأول، أن ما يظهر من امتيازات عاكسة لاختلال تقاسم السلطة والثروة بين مواطني البلد الواحد منذ الاستقلال، ما دام قائماً، فإن أي إمكانية لانفراج الواقع السياسي باتجاه آخر خلاف تثبيت تلك الامتيازات للجماعة الفئوية القابضة ستكون وهماً، والثاني، أن مظلومية مهمشي الأمس متى ما وجدت فرصة للانتصار على ذلك الظلم الذي مارسه الأولون من تخصيص التمتع بحق المواطنة، سيكون (ي ظل واقع التخلف) رد الفعل الموازي للفعل الأول.

هذا فضلاً عن إشكالات خطيرة نجمت عن انقلاب البشير الترابي في عام 1989، الذي أصبح السودان بموجب التخريب الذي مارسه ذلك الانقلاب أشبه بقبر مفتوح وهو الذي كان يمكن أن يكون سلة غذاء العالم.

إن تعذر فهمنا اليوم للمآلات التي يمكن أن تتنبأ بمصير سياسي جيد لواقع الحراك الحزبي نابع من أن شرور الأمس وما مر به السودان من أنانية لبعض مكوناته حيال الاستئثار بغالبية موارده وحرمان بقية المكونات منها، هي التي ما زالت تطل برأسها وإن كانت اليوم تعبر عن بعض جوانبها بأقنعة كثيرة، منها، أن ثمة قوى حزبية تظن حتى اليوم أن واقع أحزاب المركز التاريخية كانت بالفعل ولا تزال هي التعبير الحقيقي عن نبض التمثيل الوطني العادل لفعل السياسة والحقوق بين جميع مواطني السودان منذ ما بعد الاستقلال، وذلك فقط لأنها أحزاب من منطقة الخرطوم، لكن المصيبة هذه المرة تكمن في أن ورثة تلك الأحزاب المركزية يشتغلون باستمرار على إعادة اكتشاف تلك العجلة التي ينبغي تبديلها بالكامل لكي تنعدل الحال، دون جدوى.

وما نشهده اليوم من اعتراضات لقوى حزبية وحركات سياسية من انقسام رأسي حيال الاتفاق الإطاري السياسي الذي تم توقيعه في الخامس من ديسمبر الماضي هو فرع مما أسلفنا القول في وصفه حيال طبيعة اشتغالات التخلف في تحويل البديهيات إلى معضلات في العقل السياسي الحزبي، بالتالي فإن المحصلة النهائية ليست هي كما يظن البعض، عدم التوافق، كلا، فقد يتم التوافق على الاتفاق الإطاري وقد توقع ذلك كثير من القوى السياسية المعارضة له تحت ضغوط قوى خارجية، في المستقبل القريب، لكن المسألة ليست في التوافق الظاهري وإنما في العقليات التي يكمن في باطنها انقسام عمودي حول مفهوم السودان ذاته من ناحية، وحول مفاهيم كثيرة، من الدولة إلى الحكومة إلى الشعب إلى المواطنة، فتخرج لنا الاختلافات وتطل برأسها ساعيةً إلى تفجير الاتفاق الإطاري من داخله كما حدث الأمر من قبل مع اتفاق 17 أغسطس (آب) 2019، فالتباين الشديد جداً الذي يعشش في رؤوس السياسيين السودانيين والناشطين في السياسة من رؤساء القبائل وجماعات الإسلام السياسي حول مفهوم السودان وصيغته هو الأساس الذي سيفجر أي اتفاق سياسي في المستقبل.

وللأسف فإن هذا الحد الذي وصلت إليه الجماعات السودانية في ظل تاريخ طويل من التهميش والإهمال عزز أمرين، الأول اليأس المطلق لتلك الجماعات من أي إصلاح لذهنية الهيمنة التي يتمتع بها المركز، والثاني، القناعة بأن حمل السلاح هو الذي سيجلب الحقوق للمهمشين وكيفما اتفق، لكن ما هو غائب أيضاً في أفق تلك الجماعات التي أدمنت التهميش (الآن وهنا) هو أن هذا التوقيت لليأس والبحث عن تقرير مصير أو انفصال هو توقيت خطير ومفتوح على نهايات كارثية، لأنه في الوقت الذي بدا أن الثورة واعدة بجلب الحقوق للمهمشين السودانيين في الشرق والغرب والجنوب، كان ذلك اليأس قد بلغ مدى من التشكيك لا يمكن العودة معه إلى جادة الصواب، وهنا سنجد أن هوية التخلف هي الدالة الكاشفة للموقف اليائس ذاك من طرف الجماعات الوطنية المهمشة، الأمر الذي ينذر بخطورة كبيرة على مستقبل صيغة السودان اليوم على ما هي عليه من تشويه.

هكذا سنجد أن التاريخ حاضر، وأن الوعي المشوش الذي يستقر في أذهان كثير من السودانيين على نماذج شتى لصور ذهنية مختلفة لفكرة الوطن، هو الذي لا يزال يشد التاريخ إلى الجانب الخطأ منه.

وإذا كان اليوم يبدو بصيص أمل في السودان، بعد سنوات أربع من مرور الثورة بانتكاسات وإشراقات، فسيكون ذلك البصيص هو الهامش الضئيل وغير المتوقع للنجاح باتجاه وعي جديد للوطن يمتنع الجميع فيه عن رؤيته بصور مختلفة كما كانوا يرونه من قبل لأسباب كثيرة كامنة في التاريخ الحديث والتاريخ القريب للسودان، لأن ما يفعله التاريخ ويقرره في شكل معادلات حاكمة للواقع بقوانين غير مرئية إلا بنور الفكر، سيظل باستمرار هو الشرط الراهن بإكراهاته التي لا يمكن أن يتغلب عليها إلا قادة وطنيون تاريخيون واستثنائيون، هم أصلاً قلة في العالم، قادة من طراز غاندي ومانديلا، ولا يبدو أن زمن السودان حتى اليوم على موعد مع قائد يستقطب تناقضات الواقع بروحه الكبيرة والجامعة، ونخشى القول، إنه قد ولى زمن المعجزات!

 

الاتفاق الاطاري
Comments (0)
Add Comment