استردت “العصّارة” التقليدية مكانتها، وظهرت بشكل ملحوظ داخل المدن الكبيرة، ونشطت النسخة التي تعد الرعيل الأول لإنتاج زيت السمسم النقي الملقب على المستوى المحلي ب”زيت الولد”، وارتفع صوت الآلة المركبة والمصنوعة من مواد محلية خالصة في عدد من الأحياء بالعاصمة المثلثة، وظلت تعمل بكامل قوتها حيث تنتج في “الطرحة” الواحدة ما بين 10 إلى 12 رطلاً من صافي الزيت الصافي وتعمل لأكثر من عشر ساعات في اليوم الواحد، وربما أكثر من ذلك الوقت..
ولم تقض مصانع الزيوت الحديثة المدعومة بالتطور التقني والتكنولوجي على الوسائل التقليدية بالكامل حيث ظل بعضها يقاوم الحداثة مثل “العصارة” التي كانت وحدها تلعب دوراً محورياً في توفير زيت الطعام ماركة “الولد” الذي يعد الأجود بين الأصناف المحببة عند الأسر، ويتم استخدام عصير زيتها في العديد من الأكلات الشعبية، خاصة الفول لأنه ذو رائحة نفاذة مستحبة للكثيرين. كما يلجأ البعض، سيما كبار السن والصغار معاً، استخدامه كعلاج للالتهابات ونزلات البرد، إلى جانب ذلك يُدلك به جسم الطفل المولود حديثاً باعتباره نوعاً من التقاليد المعترف بها في المجتمعات المحلية..
وتضم مكونات وجسم العصارة التقليدية العريقة أسماء غريبة وطريفة في نفس الوقت مستوحاة جميعها من اللغات المحلية عند السودانيين، حيث
يسمى أكبر أجزاء العصارة ب”الكتلة” التي تصنع دائماً من أشجار النيم – الحراز والسنط ويصنعها عمال مهرة متخصصين لديهم معدات معينة، ويطلق على الكتلة الرئيسية في المعصرة “البئر” ثم يأتي بعدها “الصحن” الذي يحمي السمسم من السقوط، أما “الخزنة” هي عبارة عن حفرة مقوسة إلى داخل الكتلة الخشبية وينزل فيه “الولد” الذي ينسب له الزيت، وهو العود الضاغط في المعصرة.
والولد عبارة عن كتلة صغيرة مقوسة على حسب الخزنة التي ينزل فيها عن طريق الكبس، ثم يأتي “القوز” الذي يمثل شبكة للمعصرة ويرتبط مع “الهديا” ويوجد أيضاً “القاضي” ويطلق عليه في بعض الأحيان ” الميزان”، وهناك” المسلات” التي تشد الجمل على حركة المعصرة بتوازن..
ظهور العصارات التقليدية داخل المدن دفع بالكثير من الناس معرفة بعض التفاصيل عن وسيلة إنتاج رمزية لها علاقة وطيدة بالتراث السوداني قبل الحصول على زيت الولد الخالي من المركبات الكيماوية، الإقبال الكبير على العصارة في مدينة أم درمان اعتبره “أنور” صاحب أشهر عصارة عود غير معلنة للوسيلة القديمة بعد اختفاء سنوات لأسباب عديدة على رأسها ندرة زيت السمسم الأصلي المعروف وسط الأهالي ب(الولد)، وكذلك توفير زيوت بديلة مع وعن تاريخ عصارة الجمل والزيت قال: أنور ” العصارات لها تاريخ قديم في السودان، كان يعتمد عليها في إنتاج الزيت محلياً في الماضي قبل المعاصر الحديثة و الزيوت المستوردة، كانت موجودة في كل مكان، وتعتمد في تشغيلها على أدوات ومواد محلية ويعتبر الجمل أو الإبل أهم عنصر”..وعن عملية إنتاج الزيت يقول “محمد” صاحب عصارة بمنطقة شرق النيل : إن” الولد” الذي ينسب إليه زيت العصارة هو الجزء الذي يعتمد عليه في طحن حبوب السمسم، بعد أن يتم الدرش وإضافة قليل من المياه له، وتركه لمدة نصف ساعة، ويتم تعبئة السمسم حسب الكمية ونسبة المياه متوسطة في البرميل، وبعده تبدأ عملية دوران الجمل معصوب العينين وتحريكه حول الدائرة والحوامة، وهذه يعرف بالدورة الأولى قبل الثانية أن يتم إيقاف الجمل حتى يكون الولد لاصقاً بشكل مباشر مع طحين السمسم المدروش، وتكون مدة الدوران الكلي لنصف ساعة؛ ليتم غرف زيت الولد وتصفيته بقماش دمور، أما الراجع يعرف بـ الامباز..
ويجد زيت الولد إقبالاً كبيراً من قبل الناس؛ لما له من الفوائد وخصائص علاجية لأمراض المعدة والالتهاب والرطوبة، وثبت ذلك علمياً بواسطة أطباء ..
وعن أسباب عصب (غمض) عين الجمل قال محمد : يتم عصب عينيه بقطعة قماش حتى لا يهتاج أو يتوقف عن الدوران حول دائرة العصارة بعد شده ووضع الجمل بين الحوالات ووضع الليبد، وسرجه وتجهيزه كي يدور لمدة لا تقل من نصف ساعة مرة، وهذه الإبل خاصة بالعصارات يتم تدريبها منذ الصغر، ويتم زمامها في النخرة، ويتعلم الجمل لمدة شهور بواسطة ثلاثة أشخاص متخصصين واحد عند رأس الجمل يمسك بالرسن، والثاني عند البرميل والولد ليتعود الجمل على هذا الإيقاع وطبيعة الحوامة، ويتعلم كيف يأخذ الدائرة الكاملة دون توقف ويستغرق التدريب وقتاً طويلاً..
ويضيف : يتم اختيار جمل العصارات بمواصفات معينة منها الطول – السرعة – نوع الجمل المحكم عند الحركة، وأن لا يكون شرساً حتى لا يضر العامل، وعند استخلاص زيت الولد يجب على العامل أن يراعي جوانب عديدة تحذيراً.. أولها الجوانب الصحية ثم الحرص ومتابعة حركة الجمل، وأن يتم إيقاف الجمل عند الانتهاء حتى لا يطحن يد العامل بمجرد تحرك الولد عند مرحلة واستخراج وغرف الزيت وفرز الامباز من الزيت، ويبتعد العامل من الحوامة التي يمكن أن تصيب العامل بالكسر في أي مكان تصادفه حال تحرك الجمل بعد إكمال دائرته لمدة نص ساعة..
علي الطاهر