هل باتت القضايا العالقة بين الخرطوم وجوبا على سكة الحل؟

 

منذ توقيع “بروتوكول مشاكوس” عام 2002 الذي أعقبه اتفاق السلام (نيفاشا) في عام 2005 بين الحكومة السودانية في عهد الرئيس السابق عمر البشير، و”الحركة الشعبية لتحرير السودان” بقيادة زعيمها السابق جون قرنق، لم يبد أن السودان مستعد للانفصال مثلما لم يستعد لوجود دولة جارة جديدة إلى جنوبه خصوصاً مع الخلافات القائمة معها في ظل الوحدة التي استند إليها الانفصال. ومنذ عام 2011 لا تزال الزيارات تتم بين مسؤولي البلدين لحل القضايا العالقة وعلى رأسها قضية منطقة أبيي وقضايا الأمن والسلام والحدود والتجارة والديون. وفي آخر العام الماضي، زار نائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو “حميدتي” دولة جنوب السودان لمناقشة تلك القضايا والنظر في إمكانية إيجاد حلول لها مع رئيسها سلفا كير ميارديت، فهل سيكون زمن الوصول إلى الحلول أقل بعد سقوط نظام البشير؟

بؤرة نزاع

وتطلبت وضعية منطقة أبيي الغنية بالنفط عقد بروتوكول خاص بها في إطار “اتفاق نيفاشا”، إذ نص على إجراء استفتاء للسكان لتحديد مصير المنطقة وضمان نصيبها من النفط، تزامناً مع استفتاء تقرير مصير الجنوب ولكنه لم يعقد وتم تأجيله إلى أجل غير معلوم، لأنه مرتبط بترسيم الحدود وغيرها من القضايا. وكان متوقعاً أن يسير استفتاء تحديد مصير أبيي متوازياً مع استفتاء الانفصال، ولكن لم يتم حسمه فمن نيفاشا إلى لجنة الخبراء إلى لاهاي ثم أديس أبابا، كلها كانت محطات تبحث في نقاط التقاء بين البلدين حول حل الأزمة. ولما تكسرت الحلول على صخرة أبيي الصلدة، تجاوزها الشريكان موقتاً لتنفيذ الاستفتاء على الانفصال، ثم بعده عادت الصراعات الإثنية العنيفة وهي في صميمها بحث عن هوية المنطقة التي تقطنها قبيلتي “دينكا نقوك” التابعة لدولة الجنوب وقبيلة “المسيرية” التابعة للشمال. ولأن القبيلتين من المكونات الإثنية الكبيرة فإن اختراقهما من كيانات سياسية مثل حزب المؤتمر الوطني الحاكم السابق في الشمال، والحركة الشعبية لتحرير السودان الحاكمة في الجنوب، أدى إلى انقسامات أو تحالفات جديدة تولدت منها وحدات صغيرة مؤسسة على روابط الانتماء السياسي إضافة إلى الإثنية.
وقضية أبيي بوصفها بؤرة نزاع مقيمة كانت تشكل معضلة أمام الاندماج الوطني في ظل الوطن الموحد، وبعد الانفصال تضاعفت الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية هناك.

تعثر التجارة

في مباحثات مشتركة بين البلدين في أكتوبر (تشرين الأول) 2013، اتفقا على إزالة كل العوائق أمام حركة المواطنين والتجارة والخدمات بين الجانبين، وتبسيط الإجراءات في المعابر لتسريع وتيرة التعامل التجاري بين البلدين، ولكن شهدت حركة التجارة تعثراً بسبب تطبيق قانون الجمارك على الجنوب الذي أصبح بلداً أجنبياً، وعوقب بموجبه مواطنون واصلوا حركتهم التجارية بعد الانفصال. كما تعرض تجار للعقاب وفق “قانون الطوارئ” الذي كان مفروضاً خلال تلك الفترة وكان يحجب حق التنقل من وإلى الجنوب إلا “بهدف حماية الأمن أو سلامة الاقتصاد الوطني”. كما لم تنفذ التعهدات بفتح تجارة الحدود لبعض السلع التي كان متوقعاً لها أن تغطي حوالى 75 في المئة من احتياجات دولة جنوب السودان. ونتيجة لتلك السياسات تقلصت الحركة التجارية واتجهت “دولة الجنوب” إلى دول الجوار الأخرى مثل أوغندا وكينيا.

توترات أمنية

لم تبلغ دولة جنوب السودان عامها الأول بعد الانفصال حتى تزعزعت الحالة الأمنية بسبب نزاع أسهمت فيه عوامل عدة. أولاً عندما فقد السودان نفطه وعائداته وتوقف الضخ عبر الشمال بعد الاختلاف حول رسوم مرور النفط عبر خطوط الأنابيب إلى ميناء التصدير في “بشائر” شرق السودان، دخلت الخرطوم إثر ذلك بسرعة في أزمة اقتصادية حادة. كما تأثرت دولة جنوب السودان التي لم تستطع تحويل النفط إلى مورد اقتصادي بسبب ذاك الخلاف ووقف إنتاجه بعدما احتجز السودان النفط لأخذ رسوم لم يدفعها الجنوب. ثانياً أثرت الصراعات القبلية بين الأطراف الجنوبية على الحالة الأمنية الداخلية والخارجية بين البلدين. ثالثاً تبادلت الدولتان الاتهامات بدعم كل منها للمتمردين في الدولة الأخرى، فضلاً عن اتهامات بالدعم القبلي، إذ يتهم جنوب السودان الشمال بدعم القبائل العربية على تخوم دولته بينما يتهم السودان، الجنوب بدعم القبائل الأفريقية التي تعودت على الارتحال مع مواسم الأمطار للرعي مع ماشيتها بين حدود الدولتين. ولما لم تكن الرقابة الدولية قد غادرت بعد فقد جرت محاولات تهدئة التوترات الأمنية، إذ وقع البلدان في أديس أبابا “اتفاق عدم اعتداء” في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 برعاية اللجنة الأفريقية العليا في الاتحاد الأفريقي برئاسة ثامبو أمبيكي الرئيس الأسبق لجنوب أفريقيا، تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2046 الصادر في الثاني من مايو (أيار) من ذلك العام. ونصت على “احترام كل من الطرفين لسيادة الآخر ووحدة أراضيه، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية ورفض استخدام القوة، والمصالح المشتركة، والتعايش السلمي”.

نقاط حدودية

وتعد الحدود الفاصلة بين الشمال والجنوب أطول حدود بين السودان وجيرانه، وأكثرها تعقيداً لارتباطها بنشاط الرعي والارتحال والهجرات الموسمية. وتتداخل قضية الحدود بين البلدين مع استئناف إنتاج النفط وقضية منطقة أبيي التي تم الاتفاق على ترتيبات لحفظ السلام فيها والاستقرار على طول الحدود المشتركة، وذلك بإقامة منطقة عازلة حيث تقوم الدولتان بسحب قواتهما إلى مسافة عشرة كيلومترات من الحدود المشتركة. ولا تزال هناك خمس نقاط حدودية عالقة بين الشمال والجنوب. وكان لا بد من المضي قدماً في التفاوض على تحديد المنطقة المنزوعة السلاح وهي المنطقة الجغرافية المحايدة بين الطرفين.
لكن المفاوضات انهارت بعد أشهر فقط ونتج من ذلك الفشل في التوصل إلى اتفاق بصدد إقامة منطقة منزوعة السلاح، ثم عادت الأطراف إلى التفاوض مرة أخرى وتجاوب الوفد السوداني بحذر خشية لجوء دولة جنوب السودان إلى التحكيم الدولي وفرض عقوبات من مجلس الأمن واعتماد الفصل السابع الذي يسمح للأمم المتحدة باستخدام القوة العسكرية لحماية المدنيين. ثم تواصلت الاتهامات المتبادلة بين الجانبين في الإخلال بمسؤولية أمن الحدود بخاصة وأن التجار الشماليين يتخذون الطرق البرية منفذاً لإيصال تجارتهم.

إسقاط الجنسية

وحمل الانفصال أيضاً قضية الجنسية إحدى القضايا الشائكة التي لا تزال عالقة بين البلدين، إذ يرتبط بحلها مليوني جنوبي سوداني المولد والجنسية يعيشون في الشمال، وغيرهم من الذين يعيشون في مناطق صارت حدوداً بين البلدين، إلا أنه وبسبب عدم حسم قضية الحدود ذاتها، فإن التداخل الاجتماعي وحركة الرعي لا يزالان متواصلين.
وفي العام نفسه الذي حدث فيه الانفصال، صدر مشروع قانون من البرلمان السوداني ينص على أن من يحمل جنسية جمهورية جنوب السودان سيفقد الجنسية السودانية، تبع ذلك قرار مجلس الوزراء بإنهاء عمل الجنوبيين في مستويات الحكم كافة وفي القطاع الخاص باعتبارهم أجانب اعتباراً من اليوم الذي أعلن فيه الانفصال. ولكن قانونيين استندوا إلى المادة 4 في قانون الجنسية السوداني لعام 1994، وتنص على أنه “يكون سودانياً بالميلاد كل من حصل على جنسيته بالميلاد، ولد في السودان، أو أن يكون والده قد ولد في السودان، أو كان مقيماً بالسودان عند بدء سريان القانون، أو كان هو أو أصوله من جهة الأب مقيماً بالسودان منذ الأول من يناير (كانون الثاني) 1956″. ورأى القانونيون أن هذه المادة تنطبق على معظم أبناء الجنوب الموجودين في الشمال ولا يجوز نزعها أو إسقاطها إلا بحسب المادة 10 التي أجازت لرئيس الجمهورية إسقاط الجنسية عن أي سوداني بالميلاد إذا قدم إقراراً بالتنازل عن جنسيته السودانية أو التحق بخدمة دولة أجنبية بصورة مخالفة للقانون”. ولكن قامت حكومة الخرطوم وقتها بتعديل هذه المادة وأدخلت نصاً جديداً يقر “إسقاط الجنسية السودانية عن كل شخص اكتسب جنسية دولة جنوب السودان حكماً أو قانوناً”. ومنذ ذلك الوقت يسعى كثيرون إلى الحصول على أوراق ووثائق رسمية تثبت انتماءهم لأي من البلدين من دون الوصول إلى حل بهذا الخصوص.

مسؤولية الديون

وفي وقت كانت المفاوضات السودانية الساعية إلى تسوية الخلافات جارية وقتها، هدد مجلس الأمن الدولي دولتي السودان وجنوب السودان بفرض عقوبات عليهما ما لم يتفقا على حل المسائل العالقة بينهما، من ضمنها الديون. وبعد اعتراض دولة الجنوب على تقاسم الدين بحجة أن مبالغه أنفقت على مشاريع في الشمال وليس لتنمية الجنوب، استجابت الخرطوم لمطالب تحمل ديون السودان كافة قبل الانفصال عن دولة جنوب السودان شرط إعفائها من ديون المجتمع الدولي عليها خلال سنتين. بعدها بادرت دولة الجنوب بتقديم عرض إلى السودان بالتنازل عن الديون التي تقدر بـ خمسة مليارات دولار ودفع ثلاثة مليارات دولار من أجل دعم المحادثات بينهما بهدف حل القضايا العالقة. وتضمن العرض أيضاً حوالى سبعة دولارات في مقابل كل برميل يمر في خطوط الأنابيب التي تمر عبر السودان. ولكن السودان اشترط ترسيم الحدود أولاً قبل الدخول في أية مبادرات لحل قضية الديون. وبهذا تظل قضية الديون التي تحمل الخرطوم جزءاً من مسؤوليتها لجوبا من دون حل رغم المقترحات العديدة.
وانقضى عامان ولم يتم إعفاء الخرطوم من الديون، بل ظل المجتمع الدولي يضع الشروط على السودان الذي عده عصياً على التحقيق، حتى وصل المبلغ إلى حوالى 60 مليار دولار، بعد سقوط نظام البشير. بعدها أعلن “صندوق النقد الدولي” في يونيو (حزيران) 2021 تخليص السودان من متأخرات بقيمة حوالى 1.4 مليار دولار، كمرحلة أولى ثم مساعدته بقيمة 2.47 مليار دولار، لتخفيف أعباء الديون عنه في إطار “مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون” (هيبيك). وبموجب المبادرة، تعهدت وزارة الخزانة الأميركية بالمساهمة بما يصل إلى 120 مليون دولار في شكل منح لتمويل إعفاء صندوق النقد الدولي من ديون السودان. ولكن بسبب عدم استطاعة السودان الإيفاء بالإصلاحات الاقتصادية، ثم الإجراءات التي فرضها رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان بعد ذلك، عطلت مبادرات دولية عدة بما فيها مبادرة البنك وصندوق النقد الدوليين.
من جهة أخرى، وإضافة إلى ديونها المشتركة مع السودان، تغالب دولة الجنوب من أجل سداد ديونها الخارجية الخاصة المستحقة لمؤسسات مالية دولية بقيمة ملياري دولار أميركي.

حلول مؤجلة

وكانت هنالك محاذير إقليمية وعربية من أن يتعجل السودان نحو الانفصال من دون الاستعداد اللازم، ولكن تم ذلك إرضاء للمجتمع الدولي الذي وعد وتعهد بكثير من الالتزامات التي كلما يوفي السودان بإحداها ينبت له غيرها. وكان يكمن في ذلك خطآن، الأول هو تسريع الخطى نحو قرار الانفصال المصيري من دون ضمانات بالوفاء بالالتزامات، أما الخطأ الثاني فهو أن “اتفاق نيفاشا” 2005 الذي مهد للانفصال لم يضع بنوداً تحل على أساسها هذه القضايا العالقة، بل تركها ليتم الاتفاق حولها بحسب ما يقتضيه الدستور والاتفاقات الدولية الخاصة بهذا الشأن. وبما أن الدولتين وريثتا حروب ونزاعات داخلية، فإن انشغال أي منهما بإحلال السلام في البلد الآخر سيكون أمراً موقتاً، إذ إن المشكلات الداخلية لكل منهما تفرض تأجيل النظر في وضع حلول للقضايا العالقة، ولكنها حين تخرج إلى النور ستكون هنالك جولات أخرى من عدم الاستقرار.

معابر السودان
Comments (0)
Add Comment