هل يُنهي «الذكاء الصناعي» وظيفة الصحافي؟

د. ياسر عبد العزيز
في منتصف الشهر الماضي، أعلنت صحيفة «الفوجيو» الإيطالية عن مسابقة مثيرة للاهتمام بين قرائها، حين قررت أن تضع بين القصص التي تنشرها بانتظام عدداً من الموضوعات التي حصلت عليها عبر توظيف تقنيات «الذكاء الصناعي»، وسيكون التحدي كامناً في قدرة القراء على تمييز تلك الموضوعات، وعند قيام أحدهم بتحديدها على نحو صحيح، سيكون بإمكانه الفوز باشتراك مجاني في الصحيفة، فضلاً عن زجاجة «شمبانيا».

من جانبي، لم يكن بوسعي أن أقرأ موضوعات الصحيفة المنشورة باللغة الإيطالية، كما أن الفوز باشتراك مجاني فيها، أو حتى بزجاجة «شمبانيا»، لا يغريني كثيراً. لكن خوض التمرين الذهني نفسه، الذي يمكن أن يجيب عن سؤال حيوي حول إمكانية الاعتماد كلياً على منتجات «الذكاء الصناعي» في العمل الصحافي، من دون إدراك أي فروق بينها وبين ما يقدمه الصحافي البشري، ما زال عملاً ضرورياً.

ولذلك، فقد امتحنت قدرة برنامج «تشات جي بي تي» على إنتاج نصوص صحافية صالحة للنشر وفق المعايير التي أعلمها عن قواعد العمل الصحافي ومبادئه التحريرية. وعندما فعلت ذلك توصلت إلى نتيجة محددة هي أنه بوسع «الذكاء الصناعي» أن يساعد الصحافيين ومؤسسات صناعة المحتوى في عملها بشكل يمكن أن يغير أساليب عمل الصناعة، لكن تلك المساعدة ستظل محفوفة بمخاطر ومثالب كثيرة، وهي لن ترسل الصحافيين كلهم إلى مهن أخرى أو تطردهم تماماً من سوق العمل.

ووفق استطلاع قام به «معهد رويترز» وجامعة أكسفورد، في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، اتفق الخبراء المستطلَعة آراؤهم على أن تلك الآليات الجديدة ستغير طبيعة المحتوى المنشور تغيراً حاداً، وأفاد بعضهم بأنه بحلول عام 2026، سيكون نحو 90 في المائة من المحتوى المنشور على شبكة «الإنترنت» مُنتَجاً بطريقة آلية.

لا أميل إلى الاتفاق مع تلك الخلاصة؛ إلا إذا تحسنت الخوارزميات التي تعمل بها تقنيات «الذكاء الصناعي»، وعلى رأسها تقنية «تشات جي بي تي»، تحسناً كبيراً، عبر عمليات تدريب شاقة ومكثفة، وهو أمر يمكن حدوثه، بالنظر إلى طبيعة التطور المتسارع الذي تحققه تلك التقنيات، وضخامة العوائد التي يمكن أن تحققها في حال تحسنت أساليب عملها لتحاكي المُنتَج البشري بشكل أكبر. لكن ما يبعد الاحتمال قليلاً هو أن هذه التقنيات الجديدة ستضع نصب أعينها هدف محاكاة أداء العنصر البشري الذي يتصدى لتحرير المحتوى المنشور، في حين تظل معضلة التحيز قائمة في أدائه، ويظل الكثير مما ينتجه أصلاً موضع نقد واستهجان، وعرضة لارتكاب الأخطاء في مجال الالتزام بمقتضيات الدقة والموضوعية، واختيار المصادر التي يستند إليها في بناء الحجج والبراهين.

وفي التجربة التي أجريتها على «تشات جي بي تي» لإنتاج مواد صحافية، ظهر أن هذه التقنية يمكن أن تكون أسرع بمعدل عشر مرات على الأقل مقارنة بالعنصر البشري، لكن الطريقة التي تعمل بها لا تزودها بقدرة على استطلاع الجوانب المختلفة في الموضوع الذي تتصدى له، واختيار المصادر الملائمة لإحداث التوازن المطلوب.

تعتمد التقنيات المذكورة في عملها على البحث في المحتوى المنشور أصلاً، وبسبب طبيعة تصميمها فإنها تنتهج نهجاً صارماً في عدم التورط في النقاط الخلافية الواضحة، وعدم تبني منظور للمعالجة، وهي الأمور التي يبرع فيها العنصر البشري، رغم ما تنطوي عليه من تعزيز القابلية للانحياز في أحيان عديدة.

وفي الأسبوع الماضي أيضاً، وقّع مئات الخبراء المتخصصين، من بينهم إيلون ماسك، عريضة يطالبون فيها بإيقاف تدريب «الذكاء الصناعي» والأنظمة المتطورة من «تشات جي بي تي 4»، لمدة ستة أشهر على الأقل، بداعي ما قد تحدثه تلك الأنظمة من مخاطر، ولإعطاء فرصة مناسبة للخبراء والمستخدمين وأفراد الجمهور، لاختبار تلك التقنيات، وتقصّي مدى ملاءمتها وقدرتها على تقديم فائدة ملموسة من دون التورط في أخطاء كبيرة.

يقول بعض النقاد إن تلك المطالبة يمكن أن تكون جزءاً من منافسات تجارية بين شركات التكنولوجيا الكبرى، التي رأى قطاع منها أن التقدم المذهل الذي يحدثه «تشات جي بي تي» يمكن أن يُحجّم منتجاتها أو يقصيها من المنافسة، وهو طرح يمكن أن يكون مقبولاً، وإن كان يجد ذرائع موضوعية تعززه في الوقت نفسه.

إن «تشات جي بي تي» بنسخه الحالية والمتوقع صدورها بوتيرته السريعة نفسها، يمكن أن يقلل فرص عمل الصحافيين، خصوصاً فيما يتعلق بصحافة الخدمات وموضوعات الترفيه والرياضة، لكن المحتوى الأكثر جدية؛ سواء كان سياسياً أو اقتصادياً أو فكرياً، سيظل في حاجة إلى صحافيين بشر، وهؤلاء سيتوجب عليهم تعزيز قدراتهم المهنية للصمود في منافسة شرسة مقبلة على عالم الصحافة.

Comments (0)
Add Comment