عبد الحفيظ المريود يكتب: كائنات

بدون زعل

سلمى تلاحظ، متأملة، قبل سنوات بعيدة:” إنت قايل كل الشحادين شحادين؟”.. أستفهم “كيف يعنى؟”.. وهي غارقة في تأملاتها، تجيب: “قبل كم يوم، زي الساعة ١١ صباحاً، والأولاد في المدرسة، الباب دق.. لفحت توبي ومشيت فتحت.. لقيت شاب كدا، عشريني.. وشو صبوح.. لابس جلابية مقطعة كدا، وشعرو كتير.. سلم علي.. شايل ليهو مخلاية.. قال لي: عايز حاجة لله.. كرامة.. قلت ليهو دقيقة.. رجعت شلت لي قروش، وجيت أديتو.. دعا لي كتير، ومشى”..
طيب.. شنو الغريب يعني؟
تواصل، وهي منخرطة في تأملاتها:
“إنت بتعرف الحتة النحنا مؤجرين فيها في جبرة ديك، صاح؟ الحتة دي ما حتة مأهولة.. ما حصل أنا طلعت لقيت زول حايم زي المواعيد دي.. والشاب الشفتو دا، ما شحاد.. ما محتاج حاجة.. ولا ظاهر عليهو إنو مقطع، جيعان، تعبان، معوق.. الزول داك، ما زول”..
شايف كيف؟
سأسرح، متأملاً، أيضاً..
أربط كلامها بكلام الجميلة..
والجميلة كانت حين تقبض راتبها من “الرأي العام”، الصحيفة، وتخرج، تلاحظ أن ثمة – دائماً – شحاذ أو شحاذة يعترض طريقها، أو يدنو منها، حين توقفها إشارة المرور.. تقول لي “بخجل أقول ليهو الله يدينا ويديك.. بقول ربنا عارف إنو شنطتي دي فيها قروش، صارفة مرتبي هسي.. ومرسل لي شحاد عشان يختبرني.. طوالي بديهو”..
الشحاد، عندها، رسول.. ليس طالباً.
على أن الأغرب من ذلك هو صاحب الأمين بدوي “كاكوم”، في سوق ليبيا. الرجل أعمى، يتخذ ناصية على رصيف في سوق ليبيا.. مكان مهجور، جداً.. كان الأمين بدوي يأخذ أغراضاً إليه، إذا جن الليل و”انقطعت الرِّجل”…
يلقي عليه التحية، فيردها.. “جبت ليك شوية حاجات”.. يجيبه الرجل الأعمى، دون أن يحرك ساكناً “ولا كتر خيرك.. إنت قايل نفسك عملت لي حاجة؟ إنت مرسال بس.. رسلوك عشاني.. حاجاتك ديل فيهن سجاير؟”.. يجيبه الأمين بالنفي..” أرجع جيب علبة برنجي وتعال”.. يرجع الأمين، فيشتري علبة البرنجي ويعود.. يعلق الرجل “ولا كتر خيرك.. تاني ما تنسى السجاير”..
شايف كيف؟
يلاحظ الأمين أن الرجل لا يتحرك من مكانه.. مر عليه في أوقات مختلفة.. لا يغير جلسته.. لا يمد يده لأحد.. لا يغير لهجته المتعالية المستفزة.. ولا يشكره، أبداً..
يقطع بأنه “كائن”، وليس رجلاً..
والكينونة فسحة للتأويل..
راقبوا الكائنات التي تصادفونها.. التي تنجذبون إليها، بلا سببٍ كافٍ..
الأصوات التي تسمعونها..
قالوا إن الشيخ البرعي قال لأحد حيرانه “نادي فلان خليهو يأذن.. الوكت دخل”..
كان ثمة مجنون مجنزر أتى به أهله للعلاج، يقبع في الركن.. رد على شيخ البرعي “ما تأذن إنت.. وللا كبرت على الإذانة؟”..
نظر الشيخ إليه وقال: “لا ما كبرت.. بقوم براي”..
وقام ليؤذن..
لم يقل إنه مجرد مجنون..
ليس كل الكلام الموجه إليك مجرد كلام..
ليس كل شخص، صوت، لافتة، حدث، جملة.. الخ، هي أشياء عارضة..
“كل شيء مقطع، وإشارة..
تمتد من وتر إلى وتر..”
أو كما قال الشاعر محمد عبد الحى، عليه رحمة الله.

 

مريود
Comments (0)
Add Comment