كتب الزميل Ismail Hasabo قبل يومين على صفحته بالفيس بوك ؛ بمداد دامع وفؤاد موجوع . فتساءل ماذا يعني أن تكون صحفيا بلا منزل ! بلعتي ريقي عدة مرات . وبللت شفتي بطعم مالح ! لفم جف من هول السؤال . قلت تبا لهذه المهنة التي لا تدر سوى الأسى ! عسرها عثرات ويسرها مثل سراب القيعان . تذكرت ما سطره ضياء الدين بلال . عن اخر ما شاهد في غرفة (رحمي) ؛ الأستاذ رحمي سليمان . الأسم الذي له في تاريخ الصحافة السودانية سبوقات وأفضال وحبر لا يزال يتقطر كالدم والفجيعة في دار الوثائق وبعض إرشيف الصحف . كتب (ضياء) ربما من حيث لا يدري اخر مسطورات رحمي إنابة عنه فقال ..مات رحمي، في غرفة صغيرة ضيقة، في منزل متواضع، تتعدد في داخله الأسر ، مات في غرفته تلك وإلى جواره بعض إرشيف صحيفته (الأخبار) وقصاصات لمقالات أنجزت، وقصائد لم تكتمل وصور قديمة من تلك الأيام وبعض أدوات الطباعة وحروفها تحمل رائحة الذكرى والشوق القديم.
2
تذكرت صحفي أخر ؛ كان من المنتمين لحزب طائفي بولاء أظنه ولد معه ؛ ورمز من رموز الفكر والثقافة . إلتقطته مرة من طرف طريق . لقاء صنعته الصدفة وأقدار الساعات . عجوز تصلع . هلكت اطرافه وارهقته الشموس لكنه كان يحرص على أناقة تصارع البؤس . وقلم (بيغ) يناهض الجهل وملف يضم ارشيفه ؛ حينما ركب لم يقل لي انه الصحفي فلان . لكن بعد دقائق عرف عن نفسه ! غيرت اتجاه سيري لأقله الى بيته على تخوم احزمة الخرطوم الجنوبية ؛ تمنعت في الهبوط متعللا بمشوار لامنح الرجل كل ستر الحال في حي فقير . وبيت جالوص كانت حوائطه مثل نقوش ذرات الرمل على تمثال في واحة منسية . ودعته وانا أذكره باني غدا سارسل له من يقله لاننا بحاجة لقلم وصحفي معتق مثله . يهدي الشباب بعض مشاعل الطريق . كذبت كذبة ضارية العواء وزعمت ان احدهم وصى به واثنى . ولاننا مجتمع بيع الوعود فيه فريضة صدف ان احدهم قد وعد الرجل فظن انني من وصله الواعد او مؤسستي . صنعت كذبة اخرى واحتلت بمظروف وجدته في جانب السيارة ودسست فيه وريقات نقد . ممدتها بين جناحي لطف وحياء فزجرني الرجل . وسار يشد ارجله قسرا بسير بطئ نحو باب بيته . لم يكن من شك عندي انه لم يفطر وربما لن يتغدى ! لذا حين غاب . وسرت للعودة ترجلت في اقرب فضاء كنت ابكي لحظة وانوح مرات . راسي على يدي والطم خدود الهواء . بكيت لحظتها بقدر أظن انه افقد عيني مخزون الدمع لدرجة اني بعدها لا اذكر اني بكيت في منشط او مكره
3
باليوم التالي وفيت بوعدي ؛ اكرمني برجل يعلوني كان إنسانا ؛ ورجل من رفيع الإحترام والثقة ؛ صرنا نتعامل مع الرجل كخبير زائر،. ان جاء حددنا له مكان جلوس . وان لم يحضر ارسلنا له نطلب مشورة ؛ ايا تكن . فيرسلها مكتوبة . اجتهدنا في نكون لطفاء . لنرد له بعض فضل على التواريخ والسير وأنساب الحكايات . ولتقدير ألهي لم يدم ذلك فقد مات الأستاذ (فجاة) نعاه برق خريفي مع الفجر وقبر مع الشروق ؛ وحينما دخلت غرفته رايت ذات ما شاهد ضياء الدين بلال في غرفة رحمي . كتب واوراق ومصباح وفروة ! اغرب في مشهد الختام ذاك ان من ترفعوا وتصعدوا بكلمات الفقيد غابوا كانت صدورهم حرجة ليصعدوا في لحظة الواجب الى سماوات الرجال الاوفياء ؛ هكذا هم الساسة ؛ الوضاعة تلاحقهم حتى تحت ظلال النعوش
4
زاملت بعض الذين كانوا في صحافة حقبة مايو والانتفاضة وما بعدها والانقاذ بالضرورة . في العهد السابق ؛ واغرب ما لاحظت من إستخلاص العبر ان هذه المهنة تسحق من يحبها ؛ تهين الأصلاء فيها . تذل النابهين بشكل محير ! شاهدت اسماء تتنفس في انسها صحافة . اخبار ومنوعات ونقد ؛ مهنيون حتى النخاع . مبدعون لاقصى زوايا الإمتداد لكنهم كانهم هم . غبش خشنون مثل ورق الجورنال . كرماء على العدم والفاقة . طيبون جدا ؛ لا يتامرون ولا يعلون رقاب المجالس .جلهم او اغلبهم يموت ركن معتم . معظمهم قد لا تنعيه الصحف . معظمهم قد يشيع في صمت عجيب . جلهم ينقطع عنهم وفاء حتى الجهلاء الذين خلفوا بعدهم . ممن يظنون ان الصحافة خلقت في اول وضعهم اسمائهم في عمود او مقال يكتب حتى قبل ان يعلم النجم الاخرق كيف يكتب الخبر او يطرح السؤال . فئة ظللت اسميها تغيظا بالمفكرين ! وهؤلاء عادة بين الظهيرة وصلاة العشاء سماسرة مواقف وأزمات وتجار صراعات لذا لو لاحظتم صارت الصحافة عندهم من مدارج الثراء ومصاعد الدخول لاجنحة السياسة وقصور المجتمع
5
هذه الان ليست مهنة من لا مهنة له . هذه مهنة ملعونة بالجحود والنكران واكل عرق الشغيلة بامبراطورية شر الناشرين . وبالدجل الكجور الذي يسوق للشعب . في كل العهود . لذا نصحي دائم ومقيم . كل صحفي يستطيع النجاة من هذا الجحيم فليفر . ولو الى الجحيم ! إنها التعبير المدني المرادف لأرض القتل عند العسكريين . والذين عندهم تلك الارض يقتلك فيها رصاص عدو ومتربص ولكن في الصحافة ..بتموت براك ..فر يا (إسماعيل) فقد ولى زمن المعجزات رفقة (هاجر) والوادي غير ذي زرع وانت معك ذرية ! وفيك رقة وخلق ؛ وعظيم نضارة روح لا تهكلها في هذا المسير ..التيه